مشهد : جندي مدجج بالسلاح وبالضغينة.. يمعن النظر في «عدوه» الملقى على بعد خطوات، ينظر اليه مليا فيرى يفاعته ويحس رعدة روحه المهزومة وجسده المنهك الذابل. وكلما دنا منه تناهى اليه وجيبه وحمحمة أنفاسه وهو يكافح البكاء. وفي لحظة مفصلية مشعة تنتصر جسارة الروح وفروسية العقل وتعلو لتجتاز كل السدود والعوائق المصطنعة التي تحاول أن تختزل الإنسانية في حيز التمترس خلف الولاءات، حيث الربط التعسفي بين الولاء والكره للآخر. عندها يتأمل الجندي فلا يرى أمامه سوى آخر مثله يقاسمه القدر الحلوك الذي زج بكليهما إلى هوة تلك المحرقة، فيوغل عميقا ليدرك ما لم يدركه سابقا ويختار عندها أن يغمد سلاحه ويشهر إنسانيته. لعل المشهد على ندرته يتكئ كثيرا على تيمة هامة ظلت تترى في الكثير من المنجزات الإبداعية الراصدة لهدر الإنسانية تحت غطاء مسميات ماكرة تعرف كيف تتلاعب بأراجيح المشاعر والقيم. لنجد الكثير من السرديات والقصائد والمسرحيات والأفلام واللوحات التي تتآزر في محاولة للنفاذ للدلالات الكامنة وراء عدمية العداوة ووجهها الأقبح (الحرب).. لتعري و تخلخل منطقها الهزيل ومسوغاتها الهشة. وصولا بها للسؤال الهادر: هل إستطاعت البشرية أن تنجز أي تقدم حقيقي، أم أن القفزة الصناعية والتقنية والمعمارية والهيمنة الرقمية تظل مجرد مظاهر حضارية لواقع إنساني شديد الإدقاع والبدائية والبؤس؟! ونقع على هذه المعاني التي تحاول أن تمد يدها لتهشم فخارة العداء المفترض للآخر وتقترب منه لتحاوره برفق في قصيدة « جندي يحلم بالزنابق البيضاء» لمحمود درويش، في شكل حوار إنساني رفيع بين الشاعر وجندي إسرائيلي أراد الشاعر أن يشرح له بسلام مطالبه البسيطة: «الوطن هو أن أحتسي قهوة أمي وأن أعود سالما مع المساء». وهو عين المضمون الشاهق العميق الذي يؤسسه ييتس في قصيدته (طيار أيرلندي يستنبأ موته) وهي بلسان طيار حربي يدرك بيقين راكز انه سيلقى حتفه في الأعلى بين ركام السحب، فيعترف في إرتجافته الأخيرة بأن العداء للآخر أكذوبة لم تنطل عليه، و تغرير خسيس لم ينل من عقله أو قلبه، وأنه في قرارة نفسه لا يحس ذرة كره للذين توجب عليه أن يرسل عليهم الحمم والموت في الأسفل. ويستقطر ذات المعنى توماس هاردي في قصيدته (الرجل الذي قتلت) التي يحكي عبرها بصوت جندي يافع كيف أنه صوب وسدد سلاحه ليردي شاب في مثل عمره كان أيضا يصوب تجاهه و يهم بقتله.. على الرغم من أنهما يدركان سلفا أن ما يفرقهما لا يعدو أن يكون خرقة بلون مختلف، و لو أنهما تقابلا في مكان و ظروف مختلفة لتقاربا وتسامرا وقهقها معا وتصادقا. وتقدم قصيدة هاردي رؤية تجمع هالتها معاني كبرى ترفض التغاضي عن الإنسانية بأسم عداء زائف مصنوع ينتجه و يروجه من لا يدفع ثمنه المبهظ. و هي لقيا إنسانية عامرة تجمع كذلك هاردي بكمال الجزولي في قصيدته (مسألة)، حيث يحدق السجين من غيهبه الى سجانه الذي يقاسمه السهر و البرد هناك على حافة سور السجن.. فيمضي الشاعر ليشق حجاب العداء المفترض و يجرف حصبائه بمد تآخي إنساني نبيل موشوم بالمحبة والتفهم، مخاطبا سجانه: قلت له: فكيف نمسى عدوين؟! هل نحن حقا كذلك؟! و هل الذي يستحلب الآن قطرة قطرة سهدنا معا هنا غير ذياك الذي ينام ملء الجفون هنالك وهل ما يشقنا ضدين - هذه الليلة - غير الذي سوف يصهرنا توأمين في رعب أوجاعنا القاتلة، غدا عندما تزلزل الأرض زلزالها. - إنتهى-