نلسون مانديلا ليس مثل زهير بن أبي سلمي الذي تطاول به العمر حتى بلغ الثمانين فوصف ذلك في مقطع شعري بليغ قائلا: (ثمانون عاما لا أبالك تسأم). زمان كانت أنشطة الحياة قليلة ولا تسمح إلا بفرص ضئيلة للتجديد، ولذلك سئم زهير من الحياة الرتيبة وهو يطرق أبواب الثمانين. أما مانديلا فقد أغلق باب التسعين يوم السبت الماضي (18 يوليو 19182008) ولم يقل إنه سئم الحياة، بل قال إنه سعيد أنه ما زال يعيش حتى أكمل التسعين في ظروف غير مواتية لزنجي فقير وبائس في بلد ما كانت قوانينها تفرق كثيرا بين السود والحيوانات. قبل عشرين سنة كان مانديلا سجينا منسيا في سجن قابع في جزيرة (روبن) على المحيط الهادئ، وأفرج عنه في فبراير عام 1990 .. وفي مراسم مثيرة للعواطف عشية بدء الألفية الجديدة زار مانديلا الزنزانة التي أمضى فيها (22) عاما من بين أعوام سجنه ال (27) عاما في جزيرة روبن وأضاء شمعة رمزا للتصالح. وقد كان مانديلا قويا ومصادما حتى أنه اختير عام 1961 رئيسا للجناح العسكري في حزب المجلس الأفريقي القومي عندما قدر المجلس أن سياسة السلم لم تعد تنفع مع تصاعد قوانين الفصل العنصري في بلده. كان سعيدا لأنه تغلب على نفسه واعتزل الحكم بعد دورة واحدة حددها دستور جنوب أفريقيا بخمس سنوات (1994- 1999)، إذ جاءته السلطة على طبق من ذهب، وكان بإمكانه أن (يكنكش) فيها، إلا أنه تغلب على (الفانية) واختار ما هو أبقى. اختار المبادئ : التسامح، والترفع، والانتقال السلمي للسلطة متجاوزا صراع السياسة غير المجدي. تلك الصفات أصبحت من العملات النادرة في العالم الثالث في القرن العشرين. اعتبر الكثيرون مانديلا أسطورة من أساطير القرن العشرين. واعتبره البعض قديسا يلتمسون البركة من لمسة في جسمه الضعيف، أو في نظرة من نظراته الباسمة. قالوا إن بسمته رمز للتفاؤل بمستقبل واعد للبشرية برغم الظروف المدلهمة في كل مكان. قبل أسابيع احتفلت لندن بعيد ميلاده التسعين، وجاء الشعراء والفنانون والمثقفون والمفكرون من كل أصقاع الأرض. وكان السياسيون آخر من أدرك هذه العظمة. إذ أدرك الكونغرس قبل يوم واحد من احتفالات لندن أن مانديلا ليس إرهابيا كما تصنفه القوانين الأمريكية، فعدل النص وحذف اسمه من سجل الإرهابيين. وبعد .. من أقوالنا الإسلامية قول جميل وشفاف وهو: (رحم الله امرئ عرف قدر نفسه)، وعند أهلنا الختمية دعاء قاسٍ على خصومهم يقولون فيه: (واشغل أعداي بأنفسهم)، أي اشغلهم بهمومهم وهواجسهم وبالجري وراء شهواتهم ونقائصهم. وهو دعاء قاصم. قلة من زعماء أفريقيا من عرف هذه المعاني. ظهر بعض الحكماء الذين غادروا مقاعد السلطة قبل أن تقلب لهم ظهر المجن مثل ليوبولد سنغور وجوليوس نايريري. ظاهرة مانديلا ليست الوحيدة، لكن على وجه العموم فإن زحف الديمقراطية على قلاع الدكتاتورية يشير إلى مستقبل واعد .. أو على الأقل هذا ما نتمناه.