لصلاح الإنسان مقام آخر ترصد فيه مآثره الجمة وحياته الزاخرة من المعاني والتضحيات الجسام، وحتما يوجد وسط الشباب من المؤرخين من يتصدى لكتابة سيرته ان لم يقم بذلك من تبقى من مجايليه المنصفين رغم أن المعاصرة حجاب كما يقول المثل السائر.. فقد كان صلاح نموذجاً للرجل الواحد الشجاع الذي يشكل أغلبية وكان أىضاً نموذجاً يحتذى به في الشجاعة والصلابة والعفة وبساطة العيش وكأنما كان سلفه أحمد محمد صالح يعنيه بقوله: علَّم شباب الواديين خلائق الرجل الأشد علمهمو ان الخنوع مذلة والجبن يردي وهناك مقام آخر لصلاح الذي خاض غمار السياسة وتحدى امواجها العاتية فصرعته حيناً وصرعها احياناً وفي الحالين كان صاحب رأي أصيل ومبدأ لا يتزحزح عنه قيد أنملة، فعندما اختلف مع حزبه خرج منه عاري المناكب كفيلسوف التيجاني وهجا اقطابه هجاء مراً مثيراً للجدل بل ومنفلت العيار احياناً إلى حد وصف احد زملائه بأن انتهازيته متمكنة منه كشلوخه وهذا باب طويل قد يعود إليه المؤرخون السياسيون ليجلوا فيه الرغوة من الصريح. ولم يتورع عن تحدي الدكتاتور وهو في ذروة جبروته وهجر وظيفته المريحة ليجوب الآفاق خالي الوفاض إلاًّ من ايمانه بالوطن وكتب أروع قصائده العامية وعدد فيها مخازي الرجل الذي اعتبره عدوه الأول: فاتورتو من لبن الرضيع مدفوعة وجلابتو من كفن الشهيد مقطوعة وبحكم اطلاعه الواسع على النظرية الماركسية ودراسته العميقة لنقاط تحولاتها لدى غرامشي والتوسير ومدارس علم الاجتماع النقدي «مدرسة فرانك فورت على الاخص» استطاع ان يتوصل إلى خطوط عامة لا تتنافى مع اسلامه الصوفي مما مهد لعودته الظافرة في نهاية الأمر إلى التراث الاسلامي الحي الزاخر، في هذه القصيدة التي نحن بصددها «نحن والردى». ولكننا في هذه العجالة نكتفي بالقول إنه لا بد للنقاد والدارسين من وقفة متأنية يتناولون فيها الاثر الابداعي الكبير الذي احدثه صلاح احمد ابراهيم في الشعرية السودانية المعاصرة وان يقوموا بمراجعة مسيرته الطويلة الحافلة من نهاية خمسينيات القرن الماضي إلى منتصف تسعينياته كما ان أية محاولة لإعادة كتابة تاريخنا الثقافي والسياسي والاجتماعي على مدار تلك الفترة الحاسمة في تكويننا الفكري في كل من توجهاته اليسارية وحتى الاسلامية لا يمكن ان تتم دون الاشارة إلى هذا الشاعر الكبير. ومنذ ديوانه الأول «غابة الابنوس» بدا واضحاً انغماسه الحميم في قضايا الكادحين والمهمشين -انظر قصائد مثل «عشرون دستة» بالرغم من وجود ظلال رومانسية حسية عذبة في ذلك الديوان المبكر «يا مريا»: ليت لي أزميل فدياس وروحاً عبقرياً لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك تمثال مكبر إلا أن صلاحاً ولد شاعراً ملتزماً بوطنه وما كان يتطلبه ذلك من تشوق للتعبير عن الهموم العامة، ووجد بغيته في المذهب الواقعي الذي بدت طلائعه في افق العالم العربي، خاصة بعد اطلاعه العميق على الادب الانجليزي «ديكنز على سبيل المثال» وعلى رواد الواقعية الروس وعلى رأسهم مكسيم جوركي وعالمه الرحيب، ومن ثم شق صلاح طريقه بتؤدة وقوة واستحصد ثمرات ناضجة في ديوانه الثاني «غضبة الهبباي» وفيه لغة رؤيوية تميزت بشئ من الخشونة النثرية ربما استمدها من مطالعته الدؤوبة لصاحب «اوراق العشب» والت وايتمان واحياناً فيها صلابة وكأنما قدت من صخور جبال الأماتونج القاسية وهي بعيدة عن الجعجعة البلاغية مع انها تنم عن عاطفة ثورية تنتقل تحت رماد الاحزان والفواجع وتنضح بالأسى والحكمة الجريحة التي يتذوق طعمها الانسان بعد طول معاناة، وهي مفعمة بالاداء الحر والهدير المكتوم. وفي كلا الديوانين غرس صلاح قدميه في تربة الشعر السوداني المعاصر وامده بنفس من التجديد القائم على تملك التراث المحلي والعربي والعالمي حيث استخدمه الشاعر بعفوية وسهولة وانسيابية مما ضخ دماً جديداً في شرايين شعر الستينيات، كما غذى بنية شعر التفعيلة شكلاً وموضوعاً «شعر الهايكو» مثلاً وكان فتحاً في الشعر العربي الحديث» مما يدل على تعمق في الاتجاهات العالمية في الشعر ومنه الشعر الياباني المترجم إلى الانجليزية وكل ذلك يتطلب إعادة النظر خاصة من الشباب -في كتاب الشعر السوداني ليصلوا حاضره بما انقطع من ماضيه الغني بالبذور الحداثية. ونكتفي بنظرة استكشافية لقصيدة صلاح الطويلة «نحن والردى» وهي قصيدة مركبة متعددة الاصوات والمرجعيات الفكرية وقد خطها الشاعر في اخريات العمر الجميل وجاءت تتويجاً لتجربته الابداعية، وفيها أذاب الميراث السوداني والعربي والاسلامي والعالمي في مرجل عبقريته وكانت قصيدة هي نسيج وحدها في الشعر المعاصر واسترجع فيها اللوامع واعاد صياغتها وسبكها من جديد فكانت روعة في لغتها وادائها وشكلها في معالجة فريدة تشبه الشاعر وحده.. وإذا نظرنا إلى بقية «نحن والردى» نجدها تبدأ بالذروة وتنتهي بالذروة، ولو أخذنا بالمقولة التفكيكية بأن كل قصيدة عبارة عن فسيفساء لقصائد سابقة على المستوى البنيوي فإننا نلتقي فيها بالكثير من فحول الشعراء الذين يستدعيهم الشاعر دون ان يأخذوا بزمام أمره. نلتقي بمالك بن الريب التميمي وابي فراس الحمداني في رثاء نفسيهما وهما على فراش الموت ونجد فيها من قوة الاسر والجزالة ما نجده لدى المتنبي في وقفاته أمام الموت وتسودها انفاس من اصحاب المعلقات وصعاليك الجاهليين في التوق إلى الانعتاق وظلالاً من فلسفة المصري وطلاقة شوقي والعباسي ناهيك عن شيلي ووايتمان في محاولتهما لفك الانسان من القيود التي تقهره واطلاقه في فضاء الحرية كما فيها شئ من لا أدرية ايليا ابي ماضي وبغضه للعبودية وفيها من «كانتوس» إزرا باوند الاشارات الثقافية المتعددة وان لم يغرق في الحزلقة مثلما فعل الاخير. وكما قلنا فإن القصيدة تبدأ بالذروة: يا زكي العود بالمطرقة الصماء والفأس تشظى وبنيران لها الف لسان قد تلظى ضع على ضوئك في الناس اصطباراً ومآثر مثلما ضوع في الاهوال صبراً آل ياسر فلئن كنت كما انت عبق فاحترق ان هذا المزيج السحري الغريب من الصندل الفواح والمطرقة الصماء واستدعاء الشخصيات التراثية «آل ياسر» والعبق الذي يحترق لينشر عطره في الآفاق يمثل مجازاً شعرياً لفضيلة العطاء بدون اخذ ويتماهي فيه الشاعر بالشهيد. ثم يخاطب الشاعر الموت ويدعوه لاستعراض واصطفاء من يرغب من الكتيبة التي تقف في انتظاره والتي يلقاه واحدها بالباب بشوشاً مرحباً: بضمير ككتاب الله طاهر انشبي الاظفار في اكتافه واختطفي ثم يلجأ إلى التراث القوي مبرزاً أعلى درجات الفصاحة في التعبير الدارج: «شرفي» تجدينا مثلاً في الناس سائر نقهر الموت حياة ومصائر ثم يخاطب القاتل الذي بلغ الحد الاقصى من روح الانتقام والتشفي، مستوعباً التراث الاسلامي مرة أخرى: هذه أجنابنا مكشوفة فليرم رامي هذه اكبادنا لكها وزغرد يا حقود «هند التي لاكت كبد حمزة عم النبي «صلى الله عليه وسلم» والشاهد هنا ذكاء البلاغة التي تفيد من التضمين لتلامس حدود العبقرية. ويصور الشاعر القاتل بالحاطب الذي يقطف الرؤوس دون وازع من رحمة أو انسانية. أما الشهيد القتيل فينتظر حتفه بجرأة وشجاعة لأنه لا يرى غير وجه وطنه الحبيب في هذا الموقف العصيب، يقول عنترة العبسي: ولقد ذكرتك والرماح نواهل حُمُر وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم وكيف يهاب المنايا من خبرها منذ نعومة أظفاره: ما الذي أقسى من الموت؟ فهذا قد كشفنا سره واستسغنا مرة ثم تجئ الكلمة العامية الفصيحة الجذور حبلى بالمعاني زاخرة بالظلال وفي مكانها الذي لا يعرفه إلاَّ من حذق لغة الشعب الولود: صدئت آلاته فينا وما زلنا «نعافر» ما جزعنا أن «تشهانا» ولم يرض الرحيل فله فينا اغتباق واصطباح ومقيل آخر العمر قصيراً أم طويل والثمن الذي ندفعه ابسط مما نتصور: كفن «من طرف السوق» وشبر في المقابر وهذه قمة الزهد في متاع الحياة الزائل والتوق إلى تحقيق الغايات العليا والذي لا يعرفه إلا القليلون منا.. قال ابو الطيب: وقفت وما في الموت شك لواقف ووجهك وضاح وثغرك باسم الشاعر لا يهمه ان تأتي المنايا زرافات أم وحداناً: تجدينا لك انداد المحافل ويعبر بصورة هي من صميم الواقع السوداني الذي لا يشبهه واقع آخر محققاً ما نادى به حمزة الملك طمبل وطوره محمد المهدي المجذوب في كتابة شعر سوداني خالص: القرى منا وفينا لك والديوان حافل «انظر قول الشنفري»: اقسم جسمي في جسوم كثيرة واحسو قراح الماء والماء بارد» وعندما يحين الحين ويكشر الموت عن وجه المكفهر: «عارضاً فينا» بسيف دموي ودرق. وكان صلاح يقطن قريباً من الساحة التي كانت تعرض فيها جيوش المهدية، وهذه اشارة موفقة إلى عادة سودانية صميمة «انظر وصف التيجاني يوسف بشير لكسر التربة». ولا غرو فقد كان صلاح ممتلئاً بأسلافه الميامين ومع ذلك تبقى ذكراه العطرة وما قدمه للشعب العظيم: ولنا آرث من الحكمة والحلم وحب الكادحين وولاء حينما يكذب أهليه الأمين ولنا في خدمة الشعب عرق ثم يخلد الشاعر إلى ضرب من فلسفة المصير وإذا كان خير النظر ما يبصر بالقلب فهذه فلسفة نابعة من القلب: برهة من سرمد الدهر أقمنا ومشينا ما عرفنا بم أو فيم أتينا وانتهينا «انظر قول ايليا ابي ماضي»: «جئت لا اعلم من اين؟ لكني اتيت ولقد ابصرت قدامي طريقاً فمشيت كيف جئت كيف ابصرت طريقي لست ادري» ويستمر بنغمة حزينة في هذه التأملات التي حيرت البشرية دهراً طويلاً حيث يلتقي بالمصري وملتون وشكسبير، كل ذلك عفو الخاطر ودون اعتساف حين يغمر نور الروح الباهر اللحظة التي تجتمع فيها الحياة والموت في اشارة بليغة إلى المصير المحتوم: خاب قوم جحدوا الفضل صنيعه ان الفضل وان مات ذووه لضياء ليس يخبو فسألوا أهل النهى «انظر قول شوقي»: «والناس صنفان موتي في حياتهمو وآخرون ببطن الارض احياء» وكان صلاح من هذا الصنف الأخير. ورغم أن المقام مقام الحديث عن الفواجع والمآسي والرزايا فلا بد من الانتقال إلى جو آخر مفعم بذكريات الحنان والالفة وهو ما يفعله بعصى مايسترو فينتقل إلى عالم الأم الرؤوم: التحيات لها وبشوق ابدي عارم ينزف من جرح اليم وامتنان لا يقيد قدره قول ولا فعل حديث أو قديم التحيات لها ليت لي في الجمر والنيران وقفة وأنا اشدو بأشعاري لها وهو يختتم الصعاب ليقف أمامها وقفة التروبادور امام شباك حبيبته: ليت لي في الشوك والاحجار والظلمة وقفة وأنا أسعى بأشواق لها ليت لي في زمهرير الموت رجفة وانا الفظ انفاسي لها وهي ترنو لي وتصفو للتحية بابتسام وجبيني في الرغام ثم يختتم صلاح قصيدته الملحمية بالنفاذ إلى جوهر الاشياء وبطريقة لا تضاهي في اسدال الستار على الابطال وتغرق خشبة المسرح في ظلام دامس ولا يبقى ألا شعاع خافت يبرق بالمعاني العظيمة: رب شمس غربت والبدر عنها يخبو وزهور قد تلاشت وهي في العطر تعيش وقد صدق المتنبي في قوله ان المسك بعض دم الغزال، وقصيدة «نحن والردى» ختامها مسك بحق وحقيقة.