في واحدة من المرات القليلة في تاريخ مجلس الأمن التي تحاول فيها دول من العالم الثالث أن تفعل شيئا ما في مجلس الأمن، وتسهم في صناعة القرارات المؤثرة على الصعيد الدولي، تقدمت كل من ليبيا وجنوب أفريقيا بمشروع قانون لتجديد التفويض الممنوح لبعثة الأممالمتحدة والإتحاد الأفريقي المشتركة في دارفور(اليوناميد) إلى جانب الدعوة لتفعيل المادة السادسة عشرة من قانون المحكمة الجنائية الدولية التي تمنح المجلس الحق في تعليق إجراءات المحكمة، وهو الأمر الذي يجمع بين تجديد مهمة قوات حفظ السلام، وتجميد الإجراءات التي ربما حالت دون تحقيق سلام هش على الأرض، لكن كثيرين يأملون في الوصول إليه قريباً. ---------------------------- وفي واقع الأمر فإن ليبيا وجنوب أفريقيا ليستا وحيدتين في مسعاهما ذاك، فخلفهما تقف رغبة العالم الثالث بأكمله تقريباً، إذ يعبر هذا الاتجاه عن مواقف مجموعة الدول الإسلامية والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي جنباً إلى جنب مع المجموعة الباسيفيكية وكتلة عدم الانحياز، ويمكن إيجاز مواقف هؤلاء جميعاً في المطالبة بتأجيل بت قضاة المحكمة في طلب المدعى العام إصدار مذكرة اعتقال لتوقيف الرئيس عمر البشير ، إذ ترى هذه الأطراف الدولية أن الإجراءات التي تم تحريكها حديثاً تهدد فرص السلام في السودان مما يشكل تهديداً للسلم والأمن الدولي والاقليمي. وللمفارقة، فإن الحكومة السودانية نفسها لا توافق على مشروع القرار لكنها ترحب بهذا التأييد الدولي غير المسبوق لموقفها في ذات الوقت الذي تقول فيه إن سقف مطالبها يتجاوز تجميد طلب الاعتقال إلى الإقرار برؤيتها المتعلقة بعدم قيام ولاية لمحكمة الجنايات على السودان. وعقب مشاورات ساخنة شهدتها أروقة المجلس أمس الأول خرج السفير الفيتنامي لدى المجلس لي لونغ، وأشار إلى أن خلافاً وقع بسبب بند رغب البعض في إضافته إلى مشروع القرار ويطالب بتعليق إجراءات المحكمة بحق الرئيس السوداني، والمؤكد أن الثلاثي الغربي في مجلس الأمن أمريكا وبريطانيا وفرنسا هو الذي وقف في وجه مشروع القرار الذي يعكس وجهة نظر العشرات من دول العالم، وقال زلماي خليل زاده المندوب الدائم للولايات المتحدة في المجلس (نحن نؤمن أن مطالب السلام والعدالة والتطورات المتصلة تجعل الإشارة إلى المادة السادسة عشر في قرار تمديد عمل البعثة أمراً غير مبرر) وأضاف أن التقدم بطلب في هذه المرحلة لتعليق إصدار مذكرة اعتقال الرئيس من أجل حماية شخص واحد فحسب هو طلب سابق لأوانه. ويطرح موقف الدول الغربية الثلاث تساؤلات حول إمكانية استخدام الفيتو ضد مشروع القرار بواسطة دولة واحدة أو الثلاثة مجتمعين، ويرى د.عز الدين الطيب أستاذ القانون بجامعة النيلين أن الانقسام في المجلس يخدم في النهاية مصلحة دولة السودان ويعطي مؤشراً على أن الجهات التي تقف وراء أوكامبو لم تستطع تبرير ما تصبو إليه، وأن ثمة نوعاً من التوازن بين المواقف الدولية حول القضية. وتدعم الموقف المناهض للمحكمة كل من روسيا والصين العضوين الدائمين في المجلس، لكن معارضة الثلاثي الغربي تفتح الباب للتفكير في السيناريوهات التي يمكن للقوى المناهضة للمحكمة أن تتبعها للوصول إلى تعطيل المذكرة. ويرى عضو مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان المحامي عمر الفاروق شمينا أن أي عمل دبلوماسي يجب أن يستهدف استخدام المادة السادسة عشرة من قانون المحكمة الجنائية أو المادة الثالثة والخمسين من قانون الأممالمتحدة.(والتي تعلي من اهمية الحفاظ وتقديم الحفاظ على السلم والأمن على ما عداه). إلا أن د.عز الدين الطيب يقول ان الموضوع برمته بين يدي مجلس الأمن الذي أحال القضية في وقت سابق إلى محكمة الجنايات، وبيد مجلس الأمن أن يحل القضية عبر المادة السادسة عشرة من نظام روما أو عبر ميثاق الأممالمتحدة الذي يمنح مجلس الأمن السلطة العليا لاتخاذ أي قرار حينما يتعلق الأمر بالأمن والسلم الدوليين. ويبدو أن مساعي كتلة العالم الثالث المدعومة بالصين وروسيا ربما تصطدم برفض غربي دائم لأية محاولة لتمرير قرار يبعد عن السودان والعالم شبح مذكرة الاعتقال التي يتفق كثيرون على أثرها المدمر على السودان وأفريقيا، الأمر الذي يجعل إيجاد معالجة للأزمة عبر مجلس الأمن سواء كانت استناداً إلى المادة السادسة عشرة في نظام روما أو غيرها من مواد ميثاق الأممالمتحدة، يتوقف على رغبة الدول الغربية الكبرى في الوصول إلى هذا الحل أو رغبتها في مواصلة القضية عبر إجراءات المحكمة. وكان المحامي والناشط الحقوقي د.أمين مكي مدني قد أشار في حديث مع (الرأي العام) إلى أن محكمة العدل الدولية يمكنها أن تمنح رأياً استشارياً في مثل هذه القضايا، إذا ما تلقت طلباً في هذا الشأن من وكالة دولية متخصصة أو من الجمعية العامة للأمم المتحدة. وإذا أصرت القوى الغربية على رفضها إيجاد حل للقضية عبر مجلس الأمن فإن الخيار الوحيد المتاح حينها أمام المناهضين لمذكرة التوقيف سيكون هو الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يشير د.عز الدين الطيب إلى أن المجلس إذا فشل في حل الأزمة فإن الجمعية العامة يمكنها أن تصدر موقفاً بالأغلبية ضد إجراءات المحكمة،وإن كانت قرارات الجمعية العامة كما يذهب د.الطيب ليست ملزمة لكنها تشكل نوعاً من الضغوط، ويضيف أن الخيار الثاني يتمثل في أن تطلب الجمعية العامة رأياً استشارياً من محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة حول القضية مما يشكل مزيداً من الضغوط على القوى الغربية. وحتى الآن تظل نوايا كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة غير واضحة الملامح إزاء المواقف الواضحة التي اتخذتها معظم الدول الصغيرة والمتوسطة إلى جانب روسيا والصين، ويبدو أن رغبات هذا الثلاثي ومواقفه سواء كانت داخل مجلس الأمن أو خارجه هي التي ستحدد المسار الذي يمكن أن تصطف فيه الدول المناهضة لمذكرة التوقيف