السبت الماضي كانت الأبيض أجمل من كسلا في عيون الحلنقي، الخريف أحالها إلى زمردة ترقد على بياض النوايا والرمال، كانت عروساً في كامل زينتها، (غرقااانة) في عسل الوسامة ، كنا نرى من على الطائر الميمون الذي أقل (زبدة) الخرطوم وتركها بلا نجوم، أن الغيوم تسبقنا إلى هناك وهي تبكي وتحكي عشقنا وشوقنا لمدينة كانت ومازالت مهبطاً للجمال وعاصمة للفراسة والحب والذكريات. ولأنني لا أرد لأنصار الخير والجمال طلباً، فلقد وافقت على دعوة أستاذنا الكبير حسين خوجلي لزيارة (العروس)، فأنا ممن يثقون في قدرة الرجل على اختيار الناس والمفردات والأماكن، ويراهنون على انحيازه للجمال أينما كان. على حافة غيمة مُسافرة كنت أسامر ذكرياتي مع الأبيض، فأهداب المطر ما انفكت تحمل في تفاصيل دمعتها الحنينة سيرة الحب الخرافي الذي أكنه مثل بقية أهل السودان إلى مدينة أعطت وما استبقت شيئاً ومازالت تتدفق وهجاً ووقاراً وملاحة. حسين خوجلي حشد كل جمال الخرطوم علّه يضاهي ما وجدناه من حسن يزين شوارع المدينة ويوشح سيماء أهلها بالطيبة والبهاء، فالطائرة (الفوكرز) التي يَمّمت شطر العروس في ظهر ذلكم اليوم الاستثنائي حملت كروان السودان وموسيقاره العتيق الأستاذ محمد الأمين، وضمت أشعر من كتبوا الغناء (سيد الاسم) كامل عبد الماجد وال (مخلوق بلون الطيف) التجاني حاج موسى و(لون المنقة) كما أسمته إحدى عصفورات الأبيض الجميل إسحق الحلنقي - رجل الثقافة المتوج على عرشها وزيراً سابقاً وأميراً دائماً السمؤال خلف الله كان يكثر من الصلاة على النبي، ويحدثنا مرتاحاً بعد أن خرج من قبضة البروتوكول إلى فضاء زاهد لا يأبه بالتوزير ولا يعترف بالألقاب، اللواء السفير عثمان السيد كان ضمن المشاركين، كذلك مفخرتنا الوطنية أستاذ الفلسفة ومهندس (الفيفا) الدكتور كمال شداد، وكان الماحي سليمان من الموسيقيين، ومن الصحفيين رافقت الصادق الرزيقي رئيس تحرير (الانتباهة) وضياء الدين بلال رئيس تحرير (السوداني) والجنرال أحمد طه وأبو عبيدة حواية الله والصحفي محمد حسين خضر، الوفد ضم كذلك طارق عطا نائب سكرتير الإتحاد العام لكرة القدم والفريق شرطة محمد عثمان محمد نور وأحمد عبد الله موسى نائب مدير بنك بيبلوس وعاطف دانيال مكاريوس وديباك أحد هنود أم درمان وعوض مكي، ومن نجوم المستديرة رافقتنا حزمة (هياثم) من طينة السعودي وطمبل وشوشة، إلى جانب جندي نميري الذي كان يصفه إعلام المريخ بأنه (جندي برتبة فريق) وفريني وآخرين. كل هؤلاء وغيرهم وصلوا الأبيض يومها لحضور افتتاح عدد من المنشآت السياحية في مدينة تشكل ملمحاً مهماً في ذاكرة الانتماء للجمال، والمهم في ما ذهبنا إليه أن أحد أبناء الأبيض تمرّد على معادلة السعي للربح السريع وهو يراهن على بركة الرزق وسط عشيرته وأهله ويترك أحلام الثراء المتعجل للاهثين نحو الخرطوم وأضوائها الباهتة، فاختار طينة بلده الأبيض ليغرس فيها (تعب السنين). نعم المستثمر عماد الفكي خاطب هاجساً مركزياً وتمرّد على السائد، فأزمة السودان ما زلت أراها كما آخرين، ضعف في تنمية الولايات وتهافت على المركز المثقل باتهامات الهامش، ليت ولايات السودان حفّزت أبناءها على الاستثمار بعيداً عن الخرطوم. في الأبيض شهدنا افتتاح منتزه يخرج إليه الناس مرفهين وداعين بالخير لمعتمد شيكان المحبوب فتح الرحمن عوض الكريم دفع الله، قبل أن ننتقل لافتتاح ملعب الخماسيات وكافتيريا ليالي وصالة عروس الرمال التي رفع فيها الموسيقار محمد الأمين سقف الإمتاع عالياً وهو يدشنها ب (قلنا ما ممكن تسافر) و(عويناتك) و(المن شوفتو طوّلنا نهواه ما زلنا) وأخريات من أغنياته النجوم. في الأبيض التقينا ب (عيال أب جويلي الكمبلو وعرضو) ومقدم الحفل يدهشنا بمقاطع لم يتغن بها ود اللمين في مرثية (غرار العبوس دار الكمال ونقاص دوبا حليل أبوي اللي العلوم درّاس) البقية التي سيوقعها محمد الأمين لحناً مكتنزاً بالهيبة والشموخ تقول: (طلابك توالف غير البجوك زوّار، ليك خمسين سنة مافت تكل النار، شاحدين الكريم سيد النبي المختار حمد النيل يعيش ويحي لينا الدار). في الأبيض كنا قريبين لوهج الصوفية المشبع بحكايات إسماعيل الولي، ومع التجاني حاج موسى اقتسمت متعة (عصيدة دامرقة) قبل أن نرشف عصير التبلدي والدخن، ومع الصادق وضياء طفنا في سوق المدينة فوجدناه نابضاً بالحياة، يخرج لسانه لموسم التقشف ويسبح بحمد الله ويستبشر بالخريف الجديد. شكراً للأبيض ولعماد الفكي وللاستاذ حسين خوجلي ولكل الغيمات التي سبقتنا ورافقتنا إلى هناك.