اسباب كثيرة كانت تدفعني إلى تلبية الدعوة التي تلقيتها من الخطوط الجوية التركية ، لزيارة بلاد (الأناضول) الساحرة ،والوقوف على أرض (آل عثمان) وما تحمله من رهبة فرمانات (الباب العالي) أو(طوب كابي أو توبكابي سراي بالتركية)، الباب العالي يقع في إسطنبول حيث مركز الحكم في الدولة العثمانية منذ العام 1465م إلى 1853م، قصر (الباب العالي) في إستانبول كان مركزا إداريا للدولة العثمانية على مدار 400 عام من تاريخها الممتد 600 عام. فهو القصر الذي يعيش فيها السلاطين العثمانيين. وكان يقيم فيه عبر العصور ما يقرب من 4,000 شخص. لا علينا فمن صورة تاريخ الأمس وحكايات (الطربوش الأحمر) ، إلى بانوراما حب وجمال وأحلام ملونة .. وصخب لا يهدأ، تعيشه (ارض الباب العالي) بتفاصيل درامية تشبه (فانتازيا ألف ليلة وليلة) .. فهي شعلة من النور وبستان من الفرح يرقص على شواطئها كما ترقص الحسناء في بلاط السلاطين .. حيناً تتمايل على بحر مرمرة ثم تلتف حول (البسفور) وتعود إلى أحضان البحر الأسود ، تاركة زخماً من الحكايات ينقلها الزوار . دراما الجمال في النصف الثاني من أبريل الماضي ، كنت على موعد مع تركيا (بستان اوردغان) الأخضر ، فقد حفزتني شاشة الدراما التركية وحكاوي القادمين من بلاد الأناضول الوسيمة على رؤية ذلك الاستديو الطبيعي .. فظلت ذاكرتي طوال الرحلة مشدودة لحرارة اللقاء وهي تحمل فى مخزونها صورا باهرة الألوان لحياة ثرية بالطبيعة يظللها الغيم وترعاها الخضرة ويسكنها المطر .. صور تتنقل بين الماضي والحاضر، فمن الماضي وجدتني أحمل ذكريات تاريخ الدولة العثمانية وتداعياتها المحفورة في ذاكرة التاريخ ، وفي الحاضر تتجاذبني مشاهد دراما اتجهت اليها كل الأنظار عندما رفعت ستار مسرحها كاشفة عن رومانسية تتمختر على ضفاف (البسفور) .. حطت الطائرة رحالها على أرض تركيا ، وترجلت من سلمها وأنا مثقل من تعب الرحلة وكثرة الشرود في محاولة رسم صورة تقارب الواقع الذي لم يفصلني منه سوى بضع دقائق .. فركت عينّي حتى تفتحتا على جمال اسطنبول .. كنت أنظر من نافذة (الحافلة) التي أقلتنا إلى الفندق) لروعة مدينة تظللها الغيوم و تشقها الشمس برهة ثم تعود في استحياء خلف السحب الممطرة .. الأمطار تنثال في هدوء والناس يسيرون تحت المظلات وخطواتهم تسابق زخات المطر .. تطل المباني ذات الطابع المعماري الأوروبي في أبهى صورة .. حيث الشجيرات المخضرة تخترق جدرانها بقوة لا تخشى صلابة الاسمنت .. هكذا تصحو مدينة اسطنبول وتنام ملء جفونها فى صخب الليل والنهار ، فهي مدينة خرجت من مسام التاريخ ، و ذابت فيها حضارات الشرق والغرب ، فكانت نكهة التنوع الاثني والمعماري ، فأنت ترى وجهاً عربياً ينطق بلسان (الترك) وآخر أوروبياً يأخذك الظن بأنه (خواجة) فما أن تتحدث إليه تكتشف انه لا يتكلم الانجليزية ، حقاً إنه التنوع الذي يخبئ بداخله كل سحر وجمال الدنيا. (ريفيرا) الشرق المتجول في شوارع المدينة الساحرة الغارقة فى الجمال حد الثمالة ، يدرك أسباب تسابق الحضارات للظفر ب (استانبول أي الاستانة) قبل أن تصبح اسطنبول حديثاً ، فموقعها الاستراتيجي لكونها رابطا بين قارة أوروبا وآسيا جعلها من أهم مدن العالم ، فهي مركز تجاري عالمي عند الشق الأوروبي الذي يتعامل ب (اليورو) .. وآسيوية شرقية في الشق الآسيوي الذي تستخدم فيه العملة التركية ال (ليرة) ..وأنت تتطلع إلى اسطنبول الغرب (الجزء الأوروبي) يشد انتباهك جسر (البسفور) المعلق على المضيق وهو يفصل بين اسطنبول الشرق والغرب ، و يبلغ طوله 1,510 أمتار (4,954 قدما)، ويصل عرض سطحه إلى 39 متراً (128 قدماً). تصل المسافة بين برجيه إلى 1,074 متراً (3,524 قدماً) ويبلغ ارتفاعهما 105 أمتار (344 قدماً)، أما المسافة بين البحر والجسر فتصل إلى 64 متراً (210 أقدام)، حصل هذا الجسر على المركز الرابع بين أطول الجسور المعلقة في العالم عند اكتماله في سنة 1973، وكان أطول الجسور خارج الولاياتالمتحدة، أما اليوم فهو يقبع في المركز السادس عشر بين تلك الجسور .. يلاحظ أن الجسر صار حضورا في كل المشاهد الدرامية ، كدلالة يستخدمها مخرج العمل عند الانتقال من مشهد إلى آخر بأن الحدث يجرى في المدينة .. فجسر(البسفور) في اسطنبول معلق بصورة لا تجد لها عنواناً سوى أن تسميها ب (ريفيرا الشرق) أن صح الوصف .. فالبواخر ترسو على الشاطئ ، والصيادون يلقون بصناراتهم ، وطيور النورس تحلق ثم تهبط على أمواجه الهادئة وكأنها ثوب ابيض يغطي زرقة المياه .. الساعات تمضي وغيوم المدينة توقظ الرومانسية في مشاعر أحرقتها شمس الاستواء ، لحظتها أدركت من أين أتى سحر الدراما التركية ، لم يكتفِ سحر (البسفور) بالربط بين شطري المدينة ، بل تجده يضم في رفق برج العذراء ، الذي تشع أنواره كلما حل المساء ، فيستريح على منظره العشاق كما تصوره الدراما ، فالبرج شيد لغرض التحكم في السفن الفارسية ويعود تاريخه لعام 408 قبل الميلاد وهو من أشهر معالم المدينة. زهرة التوليب في اسطنبول كان موعدنا مع زهرة حسناء تسمى ب (التوليب) وهي من الأزهار المعمّرة إذ تعيش لأكثر من سنتين ، وهي تُشبه حبات نبات البصل من حيث الشكل .. تلك الزهرة تحظى بهالة رومانسية شديدة وقدسية لما تتمتع به من أناقة وجمال ، و زهور (التوليب) في الأصل من شرق تركيا وسهول آسيا الوسطى إلا أن العثمانيين نقلوها إلى اسطنبول عاصمة إمبراطوريتهم وكانت تزين قصور السلطان وحدائق الصفوة. وكلمة (توليب) مأخوذة من كلمة (تولبنت) وهي تشير لعمامة السلطان التي تشبه زهرة (التوليب) شكلا ، تحمل أزهار (التوليب) ما بين ورقتين و 6 أوراق خضراء تبدو وكأنها مغطاة بالشمع، ومنها أنواع تحمل 12 ورقة .. يتوافّر (التوليب) بألوان عديدة ، كالأبيض والأحمر والأصفر والبنفسجي والأسود والبرتقالي. وأحيانا تكون الزهرة الواحدة بمزيج من لونين أو أكثر. طريق السلامة الزيارة التي قمنا بها لمباني الخطوط الجوية التركية ، عرفتنا بالتقدم الذي بلغته بلاد (الاناضول) في مجال الطيران ، ووسائل السلامة الجوية .. قضينا وقتاً داخل قاعة محاضرات في مبنى الخطوط الجوية ، تلك القاعة تشبه في تصميمها شكل الطائرة من الداخل ف (المقاعد والنوافذ) ، تجعلك في حالة تأهب لانتظار الإقلاع ، دون رهبة أو خوف ، بعد إدراك (طريق السلامة) .. لم تنته الجولة داخل الخطوط التركية حتى توجناها بزيارة المطبخ التركي الذي كلفنا الدخول اليه اتباع حزمة من الإجراءات ، بدت لي وكأننا نهم بدخول غرفة عمليات وليس مطبخاً لما يتطلبه الأمر من ارتداء (قفازات و مريلة بيضاء و كمامة و غطاء للرأس) .. ولكن سرعان ما نسيناها وذبنا في مذاق الأطعمة الذي يحرك (كوامن البطون) .. وقد لا يختلف اثنان في أن (آل عثمان) طهاة مهرة تشتهر مطابخهم بصنع أشهى الوجبات ، وبحسب روايات أن للأتراك باعاً طويلاً في إدخال بعض أصناف الطعام للمطبخ السوداني إبان حكمهم مثل (المحشي والكفتة ) وغيرهما ، كما اشتهروا بصناعة الحلويات ،ما يثير الإعجاب بتلك البلاد، نظافة شوارعها وأسواقها ، و احتفاء إنسانها بالزوار ، فأينما التقيت تركياً تجده يبتسم لك.