(رياك مشار نائب رئيس الجنوب فى أديس ابابا).. خبر تناولته الصحف وتفاعلت معه وكالات الانباء أمس الاول، فتح الباب أمام أحلام خرطومية كثيفة، بأن يلحق به النائب الأول لرئيس الجمهورية على عثمان، باعتبار أن الرجلين يمثلان قمة الهرم التنفيذى قبل المستوى الرئاسى، بالاضافة لرصيدهما من الحكمة فى حل مشكلات الطرفين منذ ترؤسهما اللجنة التنفيذية فى مفاوضات ما قبل الانفصال، ليضعا نقاط الختام فى سيناريو الرعب المتبادل الذى تعيشه الخرطوم وجوبا.. لم يكتمل فتح الباب ولم تغمض الأجفان جيداً ليستقر الحلم واقعاً ماثلاً، فالخبر حمل مرور رياك مشار عبر اديس فى سياق رحلة عابرة للمحيطات الى الولاياتالمتحدةالامريكية، ليكون إجهاض أحلام بسطاء السلام هو النتيجة الحتمية لمكابرة العاصمتين عن إرسال الصف الأول، كأنهما يضنان على شعبيهما بالاطمئنان.. ويبدو أن ما هيأ الشارع العام لاستقبال النائب الأول بأديس ابابا، وكثف التوقعات حول الأمر، تلك الحالة الموصوفة بال (مترددة) التى تحاصر اقدام مفاوضي الخرطوم وتميز خطواتهم، برغم اتجاهها نحو الأمام فى مفاوضات أديس ابابا وايجابيتها بحسب تعليق الوساطة، الا أنها لا تستطيع أن تبلغ نهاية الخط بالتوقيع على اتفاق يلزم الخرطوم بمثقال ذرة، رغماً عن ضرورة الاتفاق وحتمية التوقيع.. خطوات الخرطوم المترددة تلك تزامنت ورجوع متكرر ومعلن للخرطوم من عاصمة الوساطة ، تحت عنوان (التشاور مع القيادة)، الامر الذى أثار تساؤلات الباحثين عما تخفيه السطور، ويزيد من حنق المتباكين على المجد الآفل لكاريزما المفاوضين.. تحليلات يرى بعضها أن الخرطوم لم تعد تجرؤ على تسمية قيادات الصف الاول خوفاً من التبعات السياسية بعد تجربة نيفاشا، خصوصاً وأن كثيرين يربطون بين الانفصال كنتيجة نيفاشية وبين رموز لا تزال تقبع فى القصر الرئاسى، ما فرض عليها قطع الطريق على إعادة انتاج ذاكرة باستبعاد أسماء النيفاشيين.. بينما يذهب آخرون الى أن الأمر يتجاوز ذلك، الى اعتبار أن مفاوضي الخرطوم فى نيفاشا، كانوا مباشرين فى التعامل مع الحركة الشعبية ومتساهلين للدرجة التى سقطوا فيها بسذاجة، ضحية لتكتيكات انفصاليي الحركة ، ما فرض على القيادة تغيير الطاقم المفاوض بعناصر تبدو صارمة او ذات سمات من جنس الصقور.. تيار ثالث ينظر للأمر ساخراً، ويعتبر السؤال نفسه لا يعبر عن مشكلة أو لا يمثل متغيراً عملياً فى سياق ما تشهده أديس حالياً من تسابق لحسم ملف التفاوض قبيل انتهاء المهلة الممددة، ويرون أن تيم مفاوضات أديس ابابا هو ذات تيم نيفاشا ولم يشمل التغيير أياً ممن كان ضمن الفريق المفاوض، باستثناء النائب الاول الذى لا يمكن إقحامه فى مفاوضات تفاصيل أو ذات طابع فنى، بقدر ما يكون وجوده مرتبط بالكليات وعناوين التفاوض الرئيسية، ويذهبون الى ان ادريس عبد القادر، ومحمد مختار ويحيى حسين ومطرف صديق ود.سيد الخطيب كانوا ضمن الفريق الأساسى فى نيفاشا، ولم يشمل التغيير سوى ضم عدد من التكنوقراط بالاضافة لفنيين ، بالتالى فلا مبرر للسؤال بالأصل أو ربما يتحور على ضوء مشهد العودة المتكررة للخرطوم بغرض التشاور لصالح نوعية التفويض الذى يحمله المفاوضون.. مشاهدات التاريخ تحكي بأن ثمة تراجعا فى التفويض الممنوح لمفاوضي الحزب الحاكم، قياساً على ما يحدث حالياً فى أديس ابابا، ويدلل مراقبون على ذلك بتجارب بدايات الإنقاذ التفاوضية، ففي سبتمبر / اكتوبر عام 1991م، عقدت الحركة الشعبية مؤتمرا سريا بتوريت تبنت فيه شعار تقرير المصير، واعتمدته كبند للتفاوض فى أية مفاوضات سلام، لتدخل فى مفاوضات مع الحكومة السودانية بعد أربعة أشهر فقط من مؤتمرها تحديداً فى يناير 1992م، لتوقع الحكومة برئاسة د. على الحاج ، على المبدأ ضمن ما عرف باعلان فرانكفورت في 25 يناير عام 1992 الذى نص وقتها على (بعد نهاية الفترة الانتقالية يجرى استفتاء في جنوب السودان لاستطلاع آراء المواطنين الجنوبيين حول نظام الحكم الذي يناسب تطلعاتهم السياسية دون استبعاد أي خيار)، ولم تشهد جولات التفاوض حينها أى تردد او عودات مفاجئة للخرطوم بغرض التشاور.. كذلك دخلت الحكومة فى مفاوضات مع الحركة فى مايو 1992م بابوجا تحت رعاية الرئيس النيجيري إبراهيم بابنجيدا وكانت بمثابة الجولة الأولى للمفاوضات في أبوجا، تبعتها الجولة الثانية في مايو 1993، وبرغم طول المدة وتعدد الجولات الا أن المفاوضات لم تسفر عن نتائج محددة، لكنها لم تشهد ما يعرف بالعودة من اجل التشاور. وطبقاً لوقائع تاريخ المفاوضات السودانية، فان أولى حالات التردد برزت ابان تولي د.غازى صلاح الدين ملف السلام وتوقيعه على ما عرف بالاتفاق الإطاري بروتوكول ماشاكوس في يوليو 2002 ، ليتردد بعدها قبل أن يعلن استقالته من الملف بدعوى اصطدامها بقناعاته وان أمسك عن السبب الجوهري حرفياً، ودون تحديد لما ورد فى الاتفاق ويتعارض مع غازى كمفاوض وكمشروع .. وفى الوقت الذى رفض السفير الدرديري محمد احمد التعليق ل(الرأى العام)على ظاهرة تقليص التفويض الممنوح للمفاوضيين وماهية محددات التفويض نفسه فى سياق تجربة الانقاذ، باعتباره من المفاوضين السابقين حول ملف أبيي، الا أن د.ربيع عبد العاطى عضو القطاع السياسى للحزب الحاكم، يرفض توصيف الامر بتقليص التفويض، ويرى أن القضية كبيرة، وتتجاوز المراهنة على مهارات المفاوض فقط وقال ل(الرأى العام)(مناقشة قضايا البلاد الجوهرية ، اعتماداً على مهارات المفاوض خطأ كبير، لأنه لا يفتي فى مصير أمة مهما بلغت مهارته) واضاف(تجب الاستعانة بالخبراء المتميزين بالسرعة والكفاءة ، وبمراكز الدراسات وتوظيفها وإجادة استغلالها وتوجيهها لدراسة الحلول فى القضايا التى تواجه البلاد). ناشطون معارضون يرون ان الأمر لا يرتبط بالمؤسسية وما تفرضه ضرورات المرحلة من حرص إزاء استهداف البلاد كما يرى قادة الحزب الحاكم، خصوصاً فى وقت يشهد تقديم دعم أمريكى غير محدود لجوبا في مجلس الأمن، ما يجعل الخرطوم مترددة فى اتخاذ خطواتها واخضاعها للمراجعة مرة تلو الأخرى، ويرى أحدهم أن الأمر ، يتجاوز ذلك لصالح تغليب الرؤية القومية على رؤية الحزب وهو ما يسعى اليه الرئيس البشير من خلال ربطه اتخاذ أى قرار بالرجوع اليه وعدم التوقيع الا بمشورته، ويدلل على ذلك بقرار الرئيس البشير فى وقت سابق بالغاء اتفاق نافع/عقار يونيو 2011م، ما أعتبر رسالة واضحة لكل المفاوضين أن التفويض غير مطلق ولا يخضع لمزاج المفاوض ورغباته ونواياه مهما كانت سليمة، وربما ذلك ما قاد للرجوع المتكرر للخرطوم لأخذ الضوء الأخضر فى كل خطوة.. مراقبون يربطون بين خطوات التفاوض وبين الجبهة الداخلية السودانية، وان الأمر لا يرتبط البتة بثقة الرئيس فى مفاوضيه أو تفويضهم او مخاوف من إلغاء ما يتوصلون اليه ، بل يرتبط بطبيعة التيارات الموجودة وامتصاصها ومرونتها تجاه اتخاذ أي قرارات واتفاقيات تصبح ملزمة فى الخرطوم، ويذهبون الى ان العودة المتكررة للخرطوم لاطلاع القيادة السياسية على الخطوة من باب التمهيد لاتخاذها ، أى تهيئة البيئة الداخلية سواء داخل مؤسسات الحزب الحاكم أو داخل تيارات حلفائه والمتقاربين معه أيدلوجياً ، خوفاً من الهجوم المضاد مثلما حدث فى اتفاقية الحريات الاربع وما عاناه الوفد المفاوض من اتهامات الانبطاح والتراخي، من جهات ذات وزن معنوي فى الشارع العام كأئمة المساجد والدعاة، بالاضافة لتيارات التطرف العنصري.. عموماً.. تصبح كل العوامل المتفق حولها أو المختلف عليها، أرضية حاسمة للمفاوضين بالرجوع للمؤسسات لا الشخوص فى سيناريو التجربة السودانية وبرغم البطء والتردد المحيط بالخطوة الا أنها تعد فى الاتجاه السليم، وتقطع الطريق على من يطرحون أنفسهم كحكماء فى الشارع السودانى والأقدر على معرفة مصالحه، ولذلك يظل الرجوع للقيادة السياسية أمراً لا بد منه..