رزيم الرعد وهزيمه سبقانا إلى هناك، الغيوم الداكنة كانت تطوق المكان، والمطر لم يكن رشاً ولا طشاً، كان يتقلب بين هذا وذاك يبدو نضحاً وبغشاً أحياناً ويتراجع ربما ليكون طلاً يلامس أرض (أم هبج) وهي تتزيّا بالخُضرة كعادتها لاستقبال الرئيس عمر البشير في كل عام. البطانة صباح الخميس المنصرم كانت تستنسخ من طبيعتها حسناً إضافياً تتهيأ به لمصافحة أعين الزائرين المفتونين بخُضرتها وملاحتها ووسامتها البهية، وما أن وقعت عيناي على حلتها البهية حتى ارتد طرفي بوصف شاعرها: سِمْحَتْ، ومن شَناة الصَّيفة لونا اندسَّ وجبَّالِكْ لِبِس من الخَدار واتكسَّى يا المَرْدة التَّليني مع الجُمال في الرسَّة فوقِكْ زَرْقَن الرَّزَمِي السحابو اتمسَّى... البطانة وجدناها في زحمة من الخيرات حيث العباد شاكرة، والبهائم (سارحة) والحفائر حاصدة لعطاء المزنة الوفية، والأرض ترفل في دمقس من الخضرة التي تسبح بحمد ربي، والخير (باسط) والرذاذ حبيبات من عرق (النعمة) بسطته الطبيعة على جبين الحشائش التي تقاوم صفاء (الهمبريب) أو مثل ما قال شاعرها: الحُقُنْ إنْمَلَنْ، والدَّابي جاتو فضيحتو ومو خاتي إن مرق، ضاقَتْ عليهو فسيحتو إندشَّ السرِح، كرَفَتْ هواهو منيحتو والمحريب شَهَقْ، فتَّح قزايز ريحتو مخيم البطانة ظل وللعام ال (17) يرسخ في عقيدة الحاكمين والمحكومين عبقرية الفكرة وهي تبعث في الناس نموذج البطانة المؤمنة التي لم تكن في يوم (بطانة سوء).. وإنما كانت حادية للخير وباعثة لإرث السودان. كنت سعيداً جداً بدعوتي وللموسم الثاني على التوالي لمرافقة الرئيس ووفده الكريم الذي ضم الدكتور نافع علي نافع وعبد الرحمن الصادق المهدي مساعدي رئيس الجمهورية والفريق اول بكري حسن صالح وزير رئاسة الجمهورية إلى جانب فيصل حسن إبراهيم وزير الثروة الحيوانية، والفريق طه عثمان مدير مكتب الرئيس والعمدة سعد رئيس إتحاد الرعاة، أبيات ود شوراني كانت تحدوني في كل مرة وتضعني على تخوم الشوق لأرض البطانة: نويت السفر قافيت بطانة أم ساق وزري السيف وود أبصيده والبراق بعد قافينا بلد الحرق العشاق مقيلنا (قفا السمير) إن هون الخلاق سنة حميدة تلك التي استنها الرئيس وهو يجعل من البطانة مزاراً سنوياً، يستظل بها من هجير السلطة اللاهب، ويستريح معها من رهق الحكم بتعقيداته الشائكة، ويستجم بطيبة أهلها بعد عناء عام من المهام الجسام، والبطانة في عرف مراسم الدولة ليست مخيماً للسياحة يوفر الراحة والاستجمام فحسب، وإنّما برنامج به من السياسة ما لا توفره المنصات المنصوبة ولا المنابر الفخيمة والخطابات المعلبة، سياسة (تخت الحاكم والمحكومين في الجابرة) تحتكم لأريحية السودانيين في الحوار التلقائي والتواصل العفوي بين الراعي والرعية، هذا إلى جانب ما ظل يهديه المخيم السنوي للمنطقة من تنمية بعد أن نالها إهمال كبير في الفترات السابقة. في كل عام تصفو الحياة هناك من كدر المشقة وتحتضن تدشيناً جديداً للتطور الممهور ببصمة الخدمات الأساسية، محلية الصباغ التي تستضيف الرئيس سنوياً تبدو الآن مدينة مكتملة الملامح، والبطانة التي تأوي ثروتنا الحيوانية نجحت في النهوض ببيتها وإنسانها، وصارت الآن قبلة للتنقيب عن الذهب بعد أن فتح الله عليها بركات الأرض بعد السماء، وانتشرت فيها كذلك الحفائر والمدارس، ومعينات تطور وإنتاج الثروة الحيوانية، فالرئيس خلال زيارته دشّن حملة لتطعيم مليون رأس من الماشية بالولاية. د. نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية أشار لدى مخاطبته اللقاء الجماهيري بالمخيم إلى الخير الذي عَمّ البطانة هذا العام، وأضاف أنه لم يحوج الولاية لأحد وكفاها البحث عن الدعم والقروض، مُشيراً إلى تَميُّز البطانة بتراث فكري غني وقيم حميدة تعكس أخلاق السودانيين. د. نافع ظل رقماً محبباً في منطقة البطانة وهو يجلس إلى أهلها ك (شيخ عرب) تجمعه بالناس هناك أواصر الدم والقيم الثرية، قال لي د. نافع ممازحاً هل فهمت شيئاً من (نَم) أهل البطانة عقب جلسة شعرية محضورة، فأجبته أنني ورغم (شايقيتي) إلا أن (ترخيص الجعليين) الذي نلته في شندي الحبيبة جعلني قريباً من شعر أهل البطانة، د. نافع أراد أن يضعني في خانة الفريق أول بكري حسن صالح الذي كان الجميع يركزون على حاجته لمترجم، فيجيبهم هو بكري براهو؟: غير أن الدكتور الشاعر أحمد ود الفكي ود أبو سن سليل أسرة أبو سن ومفتي ديار البطانة في أشعار أهلها قال ببراءة بكري من (العجمة) التي أراد أن ينسبها له الحاضرون، وقال إنه وفي إحدى المخيمات قال: سنيد عانس الهجبة الخلالو مدرر عينك غرة القص السنارو محرر هافك كوبة القبطي اللباسو مزرر الريد فوكا مكتوب بالمداد ومكرر إنه في السنيد وصف مشية الفتاة بمشية رباع الهدندوي وقال انه عني ب (القص) الخرز اليماني شديد السواد شديد البياض، وأضاف أن هافك ضميرك - (كوبة القبطي) - أي (كباية البنور) وقال إن الرئيس التفت وسأل الفريق أول بكري عن (كوبة القبطي) فعرفها. وتابع: هذا حديث لا يعرفه إلا شخص عربي ولديه ضلع في البادية. وفي (الصباغ) أضاف الرئيس منشأة جديدة للمحلية وهو يفتتح مبنى جهاز الأمن قبل أن يتجه لمشاهدة سباق الهجن، حيث كانت البطانة على موعد مع منشط محبب وهواية أصيلة ترتبط بالإبل، والبعير مخلوق له مكانة تاريخية واجتماعية عبّر عنها شعر البطانة الذي جمله (النشوق) المرتبط بحركة الإبل حيث ظل الحنين دافقاً إلى الإبل، وقد تفنن أهل المنطقة في وصفها والاحتفاء بها، سعر (بعير الصبق) في الخارج يصل الآن الى ما يفوق ال 200 مليون جنيه بالقديم، سعد العمدة رئيس إتحاد الرعاة يحتفظ بأسرار مدهشة في (بزنس الإبل)، طقس السباق استدعى في خاطرنا وصف ود شوراني لبعيره: منسول العنانيف الوبَرْتُه نضيفة قلّلو الشراب سيتله - اي سويتلو - العليقة خفيفة الخل البثلج عِندُه منّي مخيفة فاهماً معتني سمحاً طبيعته عفيفة... البطانة تتنفس شعراً، والنظم فيها ليس بمهمة تستدعي أن يكتب أمام فاعلها وصف (شاعر) كل الناس هناك تغني وتنم، وتقول (الدوبيت)، المطروح من أدب البطانة هناك يحمل ثراءً باهراً، يزدهي بالمفاخر وينسجم مع طبيعة المنطقة المترفة بالجمال، جمال الناس والطبيعة، مفاتن البادية، وحُسنها غير المجلوب بالطبع، جلستان شعريتان جمعتا الرئيس بأبناء البطانة، حيث استرسل النم غزيراً وتدفق الدوبيت هطالاً حيث تسابق الشعراء في جلستين توهط فيها الرئيس ومن معه (الجابرة) وأخذوا يستمعون بمتعة وإنصات.. مساعدا الرئيس د. نافع وعبد الرحمن الصادق أظهرا إهتماماً وانفعالاً دفع بنجل المهدي لإهداء عصاه إلى شاعر البطانة أحمد ود الفكي ود أبو سن. فناجين القهوة كانت تدور في جلسة صباحية امتلأت بشهد القصيد كان فيها ود الفكي، والبشرى، وود أبو ناجمة، ولا يفوتني الشوبلي، ومجموعة من شعراء شباب ينطبق عليهم قول شاعرنا ود بادي: (الولد الكان.. عزام.. حلاف.. ضياف) تباروا جميعهم في قراءات جزلة أكدت للجميع أن أدب البطانة سيظل بخير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أجمل ما في مخيم البطانة أنه لم يستهلك كثيراً من السياسة.. المسؤولون هناك تنفسوا هواءً نقياً طرد من صدورهم إحن السياسة وتعقيدات الحكم وعبأهم من جديد لمواصلة المسيرة الشاقّة.. هلال مريخ كانت حاضرة في (الونسة)، وقد سيطرت على مائدة الرئيس خاصة في وجود القطب الهلالي سعد العمدة ومع احتياج الحاضرين لمعلومات إضافية عن مبادرة طه عثمان لإصلاح ذات البين بين البرنس والبرير. الأستاذ الجميل مصطفى أبو العزائم شكّل حضوراً جميلاً والرحلة تتيح لي مرافقته إلى المنطقة التي يحتفظ فيها بأصدقاءٍ عديدين.. أبو العزائم من مُرتادي المخيم المحبين للبطانة وأهلها وطبيعتها. (على كُلٍّ) نجحت ولاية القضارف في جعل مُخيّم البطانة مزاراً سنوياً للمسؤولين في الدولة، الإيجابيات المترتبة على هذا الالتزام الموسمي تحفز على استمرار الفكرة وتعميمها على مناطق أخرى تستحق أن يتفقدها كبار المسؤولين سنوياً.