? تنوعت وتعددت الكتابات وتوالت عبر الحقب كأصداء وبؤر كاشفة لمضامين قصيدة «الملاح القديم»، بفضاءاتها الخصبة ومناخاتها الأسطورية التي توضح فيها بجلاء تأثر الشاعر الرومانسي الإنجليزي كولريدج بما قرأ من ألف ليلة وليلة ورحلات السندباد, إضافة الى شغفه المعروف بأدب الرحلات والمثلوجيا القديمة كقصة روبنسون كروزو بمحمولاتها الفلسفية التي تواترت بين ابن سينا والسهروردي وابن طفيل وابن النفيس، يجسدها حي بن يقظان الذي حمل دلالة مقدرة الإنسان بفطرته الخام على الإرتقاء الى معارج المعرفة المتأسسة على التأمل والتجربة والإستقصاء والدربة والتدبر. ---------- ? وهو ما نجده كذلك في «العجوز والبحر» لآرنست همنجواي، حيث يدرك سانتياغو العجوز أن الكنز الحقيقي يكمن في التعرف على روح العالم وإستقطار المعاني من وجع التجربة. ? وصولا الى باولو كويلو في « الخيمائي» و»حاج كومبوسيتلا»، بفلسفتها الروحانية الخالصة، حيث الطريق هو الهدف والرحلة وليس الوصول هي الغاية. ? ولعل الطريف في تجربة كولريدج أنه في طفولته الباكرة قد التجأ الى المكتبات العامة وغاص بين موج معارفها هربا من زحمة المنزل المدقع المكتظ بعشرة أشقاء. وقد تميز، رغم يفاعته، بذاكرة مجيدة وقدرة لافتة على الإستيعاب، دلت على نضوج ذهني باكر وألمعية كامنة تنتظر فرصتها لتشع ببزوغ آسر. ? وقد تأثر كولريدج في مجمل تجربته الأدبية بوقوع منجزاته الأدبية تماما على الحدود المشتركة بين الأدب المحض والتفلسف العميق الموسوم خاصة بروح الفلسفة المشرقية المرتكزة إلى فكرة كدح الإنسان للوصول لإدراك المعرفة وجوهر الأشياء من حوله. ? وعلى الرغم من أن عدداً من النقاد قد إنصرف الى رخاوة الحبكة في قصيدة « الملاح القديم» بروحها القصصية، الا أن جلهم قد إنتبه بسداد لشدة إرتباط منجزات كولريدج الإبداعية بالفلسفة المشرقية و بمفهوم وحدة الوجود على وجه التحديد و الذي شكل العماد الذي يقوم عليه هيكل القصيدة، حيث تشكل قداسة كرامة سائر المخلوقات وحقها في الحياة قيمة مثالية مركزية عند كولريدج. ? ولا بد أن نقف كذلك عند أن كولريدج قد إستطاع أن يسخر بإقتدار رمزية البحر ودلالاته الغنية، تماما كما في المثلوجيا القديمة، كموئل للخير وللشر وكمحراب مقدس تسجر منه شعلة الوجود وتنفلق منه الحيوات. وهي فكرة تلامس رمزية البحر عند المتصوفة بابعادها الوجدانية والعرفانية. وهو ما نقع عليه كذلك عند حنا مينا، الذي يشكل له البحر مصدر إلهام أساسي، كما في روايته « البحر والسفينة وهي» . أو كما هي قصة « البحر والسفين» عند بشرى الفاضل، التي تتشبع أجواؤها بالفلسفة والمثلوجيا التي تجعل من دلالة البحر مرادفا للإنبعاث والخلق، كسر أزلي غني بالمعاني والمرموزات. ? وقد أفرد المفكر الراحل د.عبد الوهاب المسيري سفرا كاملا لترجمة وتأمل قصيدة « الملاح القديم» بدلالاتها متعددة الطبقات. ويرى د. المسيري - له الرحمة - أن القصيدة تمثل رحلة الإنسان السادر في غيه، غير المتأمل لثراء الطبيعة وقواها الخلاقة، ليكشف كولريدج بذلك عورات النفعية واللهاث المادي المنفصل عن كل قيمة. ? وقد حظيت القصيدة كذلك بترجمة مهمة أنجزها البروفيسور عبدالله الطيب - له الرحمة-و الأستاذ عمران العاقب أمين مكتبة بخت الرضا آنذاك، كما أشار لذلك عثمان الحوري بصحيفة (الصحافة) بتاريخ 18 مارس 2008م. ? أما اذا عدنا لمتن القصيدة فإننا نجد أنها تأتي في أطار قصة داخل قصة، وهو ما يعكس تأثر كولريدج كذلك بالقالب السردي لألف ليلة وليلة، حيث يهدف الراوي في « الملاح القديم»، وهو بحار أسطوري يهيم على وجهه عبر الآماد، يهدف الى رواية قصته للآخرين ليستخلصوا منها العبرة، وليتخلص الراوي من آلامه المقيمة ويطهر روحه المتعبة. وهذا كما نلحظ يشكل آصرة قوية تمتد لتلامس روح الفلسفة المسيحية التي لا يتحقق فيها التطهر الا بالإعتراف. بالإضافة الى رمزية طقس التعميد، حيث يمثل النضح بالماء رمزا للتطهر من الخطيئة. ? أما قصة القصيدة، والتي تعد الأطول في قصائد كولريدج، فهي تحكي عن سفينة تدفعها هوج الرياح الى البحار الجنوبية حتى تصل لانتراتيكا. فيظهر للبحارة عندها طائر القطرس البحري فيقودهم لمخرج آمن، ويظل مرفرفا فوقهم عبر الرحلة كرفيق ومرشد. ولكن أدمغة البحارة الملتاثة بالخزعبلات والأوهام، لا تلبث أن تحول طائر القطرس الى موضوع للتفاؤل حينا وللتشاؤم أحيانا أخرى، وفقا لحال الرياح والضباب. فيقرر الملاح القديم عسفا أن يتخلص من الطائر، فيصوب سلاحه بقسوة ليردي الطائر النبيل، منقذهم و رفيقهم و مؤنس وحشتهم. وهنا تأتي الإنعطافة المركزية للقصيدة, حيث ينفجر ثأر الطبيعة في وجه البحارة، فتخمد الريح و يتوقف المطر، الذي هو مصدرهم الوحيد للماء العذب، فتتوقف الحياة من حولهم، وتذبل أشرعة السفينة فتجثم في وسط البحر بلا حراك. ويموت البحارة الواحد تلو الآخر.أما الملاح - قاتل القطرس - فيلاقي العقوبة الأشد فلا يموت ولا يحيا، ليرى أهوالا لا تطاق. ولا ترفع عنه الطبيعة جبروت لعنتها الا عندما يمس شغافه الصدق و الخير، فيتأمل سحر الطبيعة من حوله ويدرك عظمتها، ويبارك بخشوع جمال البحر ومخلوقاته. عندها تدب الحياة من حوله وتنفخ الريح الروح في الأشرعة، فتمخر السفينة طريق العودة. وفي الختام يحكم على الملاح التائب بحياة أزلية يجوب خلالها فجاج الأرض ليروي قصته...عسى أن يعتبر الناس، فهل من مدكر؟!