كان العمل بمناطق الشدة أشبه بالخدمة الوطنية الإلزامية هذه الأيام بالنسبة للأطباء حديثي التخرج في زماننا ، وهو شرط للسماح لك بالتدرج في سلم التخصص أو أخذ شهادة خلو الطرف من وزارة الصحة بغرض السفر خارج البلاد كما كان في مثل حالتي . كنت حريصاً على إكمال فترة الشدة بعد سنة الامتياز ليتسنى لي السفر لإكمال التخصص ، وقع اختياري على مدينة العزازي وهي في غرب الجزيرة ، ورغم انحداري من شمال السودان الا أنني ترعرعت في أحضان الجزيرة الخضراء المعطاءة ، وكان عطائي لها بعد التخرج هو خياري . رحب بي أهل البلد كما رحب بي نخبة من تجار المنطقة الذين قدموا اليها من شمال السودان وبالتحديد منطقة العفاض وهي جارة بالنسبة لقرية أرقي التي أنحدر منها وكانوا أكثر من أهل بالنسبة لي . كانت وقتها المستشفيات الريفية وبالتحديد مناطق الشدة منها تدار بطبيب واحد (Single Doctor Hospital) فأنت طبيب للباطنية والجراحة والنساء والتوليد والتخدير ومديراً للمستشفى ومناطة بك مسئوليات التثقيف الصحي وتدريس وتدريب الكادر المساعد ،تعطى منزلاً كبيراً وسيارة وسائقا وأنت مسئول مباشرة لدى الوزير الاقليمي بود مدني، وكان وقتها أستاذي الدكتور معتمد أحمد أمين- أطال الله عمره- فقد درسنا مادة طب المجتمع في كلية الطب، ذهبت اليه أول أيامي أشكو من سيارة المستشفى المتهالكة التي ورثتها من المعونة الأمريكية فأنعم عليّ بسيارة بوكس نيسان جديدة من الورقة ،وقد أسهمت فى فتح شهيتي للعمل وأنا في مقتبل العمر وكان الوقود في أزمة وشح فانهالت عليّ مساهمات مفتشي مشروع الجزيرة ومديرهم السيد ابراهيم رضوان بوافر من جركانات البنزين طيلة فترة عملي ، أسهمت السيارة في ايصال رواتب الموظفين في ميعادها وجلب الأدوية والمحاليل الطبية من الإمدادات الطبية في الخرطوم . كانت التجربة ثرة وفرصة لبناء القدرات الطبية والاجتماعية فأنت قائد للمستشفى وممثل لها في المناسبات الرسمية والاجتماعية وتعمل في ظروف حرجة في معظم الأحيان ، وأذكر أن الماء لمنزل الطبيب كان يحضر بالبرميل ،وأذكر في أحد الأيام انتهى البرميل وفضل آخر جردل موية استعملته للحمام وامتلأت عيوني بالصابون وأنا أتحسس مكان الجردل ومن غير أن أشعر اندلق الماء من الجردل وكان طاقم التمريض في انتظاري للمرور الصباحي فاستعملت البشكير للتجفيف للوصول للمستشفى في الميعاد . وبما أن الجراحة كانت التخصص المفضل بالنسبة لي منذ أيام الدراسة في كلية الطب حرصت على تطوير هذا التخصص بالمستشفى ،فرغم تواضع الامكانيات كنت أقوم بعمليات الزائدة الدودية والفتاق والخراج وحصاوى المثانة وكانت عمليات الولادة القيصرية بسبب تعسر الولادة الطبيعية وأكثر العمليات اثارة ،فغالباً ما تحضر الداية السيدة في حالة متأخرة بعد طول محاولة للولادة الطبيعية بالمنزل أو بسبب الأمطار في فصل الخريف وغالباً ما تكون العملية ليلاً كحالة طارئة ،وكان هنالك تصدع بغرفة العمليات ترى من خلاله ما يحدث بالخارج ،وكانت الأدوات الجراحية تعقم بالماء المغلي في قدر كبير بالفحم ويتم غسل الأيدي بالإبريق وتضاء غرفة العمليات بالرتينة في حالة انقطاع التيار الكهربائي ،وبما أنك أنت الجراح والمخدر في نفس الوقت تقوم بإعطاء البنج النصفي قبل العملية ثم تبدأ العملية وغالباً ما يكون الجنين في حالة صعوبة التنفس بسبب تأخير حضور المريضة وعليه تكون السرعة في اجراء العملية هي المنقذ الوحيد لحياته، حتى يتسنى إعطاؤه أوكسجيناً خارج الرحم والعناية به ،وغالباً ما تكون غرفة العمليات محاصرة بالعشرات ان لم يكن المئات من أهل المريضة ،ومع صرخة الطفل الأولى تتعالى أصوات الزغاريد والتهليل والتكبير ويتحول المستشفى الى سرادق فرح وتوزع الحلوى والمشروبات وترتفع الأكف بالدعاء واذا كان المولود ذكراً غالباً ما يتم تسميته على الدكتور . حضر لي أحد المرضى في العيادة المحولة كتبت له دواء ، عاد بعد يومين وقال لي (الدواء مالقيتو في الاجزخانة عندي ولدي مستغرب في السعودية كان رسلت ليه الروشتة ما بلقاهوهناك) وفات علي وقتها انني سأنضم لقائمة المستغربين وأرجو أن يرد الله غربتي وغربة الآخرين .