عاجل الشفاء للجرحى في حادث الحافلة والجرار البشع بأم درمان، ورحم الله من انتقل إليه.. ظن المساكين في ذلك المساء الحزين أنهم ظفروا بمقعد ثمين في خضم أزمة المواصلات الطاحنة بالخرطوم، وما علموا أن التذكرة على متن الحافلة المنكوبة كانت تذكرة إلى الدار الآخرة، وليس إلى أي مكان آخر. لن يكون حادث الحافلة - الجرار شيئاً خارقاً لناموس المرور وسيستم الحركة داخل الخرطوم وخارجها، فهو مثله مثل غيره من الحوادث البشعة التي لم تعد من فرط تكرارها تهز مقعد أي مسؤول. وبما أنّ حادث الحافلة الجرار ليس شيئاً خارقاً لناموس الحركة والمرور- في ظن السلطات - فإنّ هذه السلطات هي الأخرى لن تخرق عادتها، ولن تكلف نفسها عناء دراسة أسباب الحادث والعمل على معالجته.. ستكتفي شرطة المرور بتقريرٍ باردٍ يرجع السبب إلى (السرعة الزائدة والتخطي الخاطئ)..ويا لها من براعة فائقة في تحنيط الحوادث المرورية في ثلاجة العبارات الجاهزة. كلّما قرأت (عبارة السرعة الزائدة والتخطي الخاطئ) التي تحيلنا إليها شرطة المرور في رحلة بحثنا عن أسباب الحوادث المرورية القاتلة، أتذكّر تقرير الطبيب الشرعي في حوادث الطعن - كما تنقلها الصحف ومضابط الشرطة - فتجئ إفادته (وجود جرح قطعي بنصل أشبه بالسكين)، وهي عبارته يتحوّط بها الطبيب من الدخول في متاهة الجزم بأداة الجريمة. المؤشر البياني الخطير لمثل هذه الكوارث هو أنّ حوادث الشاحنات والجرارات والآلات الثقيلة أصبحت تحدث داخل مدينة الخرطوم التي أبت رغم أنف أي والٍ أن تكون عاصمة حضارية.. بشاعة الحوادث المرورية في الخرطوم تكشف عن ملهاة على هامش المأساة.. كيف..؟ الجواب هو أن يقع الحادث بين حافلتين فهو في حكم الوارد.. أو بين شاحنتين فهو داخل إطار المعتاد.. لكن الملهاة في هذه المأساة وقوع الحوادث بين ركشة وقلاب (شن جاب لي جاب)، أو بين موتر وشاحنة ثقيلة، أو بين حافلة وجرار كما حدث في أم درمان مساء أمس الأول.. فما الذي جعل الجرار يجوس الشوارع الداخلية لمدينة أم درمان؟. وأي شارع مجنون هذا الذي لا يراعي الأوزان والأحجام يا إدارة المرور..؟ ما الذي يجعل الجرارات والشاحنات الثقيلة تحصد أرواح الأطفال والنساء والشيوخ وهم على متن حافلة داخل العاصمة وليس على طريق مرور سريع؟.