يَتَمَدّد الحزن في نفوس أولئك الذين ظلوا يرافقون الراحل محمود عبد العزيز في حله وترحاله، جمعتهم به بحري والصداقة المتينة، ولم يترك لغيرهم فرصة أن يستظلوا بمرافقته وصداقته وقربه، إنهم لم يختاروه صديقاً وخليلاً لنجوميته، فقد كان هو بينهم يستمد راحته في نفوس يألفها وتألفه دون زيف، فأكثر من ربع قرن ظل وائل إدريس وخالد سعيد دامبا وشهاب وعلي كومبا، تلامسهم شهرة ونجومية الحوت بأنهم أصدقاؤه، حتى بلغوا من التعريف أن صارت لهم نجومية جانبية انبلهت عليهم وهم لا يريدونها كونهم من زمرته المقربة، في الطريق إلى مقابر الصبابي، جمعتني مركبة من ضمن المركبات المتجهة للمقابر مع رفيق دربه وائل إدريس، صديق الحوت لربع قرن منذ بداياته الأولى.. ووائل رغم انه مقل في اهتمامه بالطرب ولكنه كثير اهتمام بمرافقة محمود في حله وترحاله، قبل وفاة الحوت بشهر وكأنه أراد أن يخرج من الدنيا بإجابة شفيفة كروحه البيضاء، وسأل وائل سؤالاً مباغتاً عن كونه صديقه (عشان الفن) أم خوة الصبا؟ سؤال قلق أربك وائل وكانا يجلسان في عريشة الحصير التي يستقبل فيها محمود زوّاره بالمنزل فى المزاد، وقبل أن يجيب وائل على سؤاله احتضنه محمود بمحبة حتى أوشكت دموعه أن تفسر عن سؤاله، في الطريق الى المقابر كان وائل يستفسر بالهاتف عن (دامبا)، فخالد دامبا رغم أنه يسكن بحي الشعبية ولكنه (قشة عينو) بجي المزاد لمحمود، كان وائل يشفق عليه من غياب الحوت، دامبا كان يرافقه أكثر منهم وليس له في الحياة غير محمود ومشاوير يقطعانها معاً.. لدرجة أن الحوت اذا لما يجده يلح على من حوله بأن ينادوا له دامبا «حسي دا»! قلت لوائل وأعدت له سؤال محمود بصورة أخرى في كيف تتعاملون كرفقة لرجل بهذه الأسطورة والابهة والسيرة الفنية العاتية، فرد بين دموعه رغم عُشرة السنين وما ناله من شُهرة لم نحس بأنه متعالٍ علينا ولم يتبدّل نحونا حتى إنه لم يكن يتح مساحة لصديق جديد رغم إلحاح العديدين.. كان محمود يفهمنا في حالات غضبنا وزعلنا وفرحنا.. مقل في الحديث.. لاحظت انه لا يحب الكلام عن سيرة الآخرين ليس له فيما لا يعنيه.. عرفنا منه قيمة أن تكون عزيز نفس أبيّاً، حتى في قمة ألمه ومرضه كان يسأل عن وجودنا في المستشفى ومناداتنا. وصلنا الى الصبابي التي أُقبر بها حوت الغناء.. الكل قريب منه يومها.. أزحت عدداً من الصفوف المتراصة كي أفسح مجالاً لدامبا ووائل ليقبرا ويلقيا نظرة وداع لرفيق الدرب.. وشاءت الأقدار أن يأتي التابوت المسجي عليه الجثمان في المكان الذي يقفون عليه رغماً عن بُعده من المدفن حريصاً على الرفقة حتى وهو بعيد عن الدنيا.. فتابوته تصوب نحوهم رغم الزحام.. قالا لي ان هذه اللحظة هي التي صبرتهم على فراقه وأزاحت بعضاً من الوجع الحزائني الذي خلّفه رحيله. مضى دامبا الى صيوان العزاء يشاطره الجميع ألم فراق الحوت، ولم يقو وائل على الوقوف فنقل إلى منزله بعد أن بح صوته وتكاثف عليه المعزون. الحياة بدون محمود، فراقه، مشاوير المحبة التي يلاقى بها جمهوره.. حوتة حوتة حوتة الهتاف الداوي الذي اعتاد عليه مرافقوه، مخارجته من تدافع الحفلات والمعجبين.. ونساته.. عناده.. أشياء لم يكن يتوقع وائل ودامبا ان تنقضي بهذه العجالة.. فرغم مُعاناته من المرض كان يطمئنهم إنو حيبقى كويس ويطلب منهم الدعاء والبقاء بقربه.. دامبا ووائل قالا «إن رأسهما انقطع بعد رحيله»، وسيعانيان في مقتبل الأيام، وكيف أن سيرته وأغانيه تحاصر الأمكنة والأزمنة. الراحل طلب من شهاب ودامبا وكومبا ووائل وشقيقه مامون الحضور إليه بصورة عجلى، كان وقتها قادماً من إحياء ذكرى الراحل الخالدي.. ولما تجمعوا في أسرع طلب منهم أخذ صورة تذكارية للمحاربين القُدامى وهو الاسم الذي يطلقه عليهم، مُخبراً إياهم بأن الظروف ما معروفة وأخير نتلمّ في صورة.. فكانت اللقطة التي يقف متوسطاً إياهم. أما عن آخر صورة أخذها الراحل قبل أن ينتقل لمستشفى رويال كير مستشفياً ومنها للأردن فقد كانت بتاريخ 14/12 من العام الماضي، واليوم كان جمعة ولبى دعوة لزيارة الأرباب عادل إدريس في منزله بكافوري.. أخذ محمود يعزف وكأنها ألحان الوداع على آلة أورغ بصالة المنزل يغني بصوت خفيت ويعزف، فهو من المجيدين لعزف الأورغ.. يبدأ أغنية ثم سرعان ما يقطعها ليدخل في أخرى وكأنه أراد أن يلخص أعماله الفنية التي يحبها ويغنيها لآخر مرة.. طلب ساندوتش جبنة لما حان الإفطار.. قطم منه اليسير قبل أن يتناول قطعة حلوى من على المنضدة ويعود للتأمل على مقعده في صمت.. ولمّا حانت الخامسة مساءً حمل هاتفه وجهاز «لابتوب» كان يدخل به على الأسافير وشرع في المغادرة مستأذناً.. في باب المنزل وقفت نساء لا يمل الأرباب من تلبية مضايق العيشة لهن بكرمه الفيّاض.. ولما رأين محمود نسين ما قدمن لأجله.. فهرولت إليه دموعهن قبل أن يسألنه كيفك يا محمود ولدي، ولم يصدقن أن الحوت هو أمامهن.. قلن له إنهن يحبونه لمحبة أبنائهن له، فرغم ضيق العيش وشظفه إلا أن أغنياتك هي السلوى والشبع والارتواء في زمن صعب.. أراد محمود أن يفسر لهن عن تمام عافيته.. فأخذ يقفز أمامهن في حركات رياضية فحواها إنو تمام ما تشفقن عليّ.. ومنحهن بعضاً مما يمنح من يقصدون لقضاء الحاجات وفك ضيق كرب الزمان.. خرج محمود ودعوات النساء يتبعنه بدعوات صادقة مفعمة بالمحبة والصدق والبساطة.. وذهبن ليحكين لأبنائهن أن الحوت منحهن ثمن الخبز واللبن وصحن الفول. عادت إحدى النساء في اليوم الذي ارتحل فيه محمود لدار الأرباب وقبل أن تسأل عن حاجتها، سألت عن أخباره في الوقت الذي كان فيه الطائر يقل جثمانه الى الخرطوم.. لم تجد رداً.. فقد كانت الدموع أصدق إجابة.