المنصة التي انطلق منها الترابي وعرف بها كسياسي ومفكر لا يشق له غبار، كانت الندوات واللقاءات السياسية، فقد وظّفها الترابي على أفضل ما يكون، وبرع فيها بصورة لم تتأت لزعيم سياسي في الوقت الراهن. وزان الترابي تلك الليالي التي كانت تُعقد في الجامعات والساحات بآرائه الجريئة في الشأن السياسي والديني معاً، رغم أنه لا يحبذ ثنائية الدين والسياسة هذه، ويرى أن الحياة كلها دين. أذكر أن صحفياً أجرى حواراً معه في صالونه بالمنشية حول الأوضاع السياسية، ومضى الحوار مرتفعاً ومنخفضاً، ساخناً وبارداً حسب المواضيع، وبعد أن انتهى الحوار، قال الصحفي: الآن يا شيخ أريد أن أستفتيك في مسألة دينية؟. فرد الترابي سائلاً بتهكمه المعهود (الكلام القبيل دا كلو برّه الدين!؟). أردت بهذه المقدمة أن أشير إلى أن الترابي رغم (مشيخته) إلا أن نجمه لم يبزغ من خلال منابر المساجد، وهذه من المفارقات الغريبة في حياة مفكر إسلامي مثله، وإنما كان يقدم أفكاره وآراءه من خلال ندواته وكتبه.. ولكن يبدو أنّ الوضع الآن قد انقلب رأساً على عقب. انتهى عهد الليالي السّياسيّة ولم تعد في كأس لذتها بقية، وخلت الميادين من اللقاءات والحشود، ولم تعد في الجامعات عناصر جذب لهذا الضرب من النشاط اللهم إلاّ من مجموعات أقرب إلى مجموعات الالتراس في كرة القدم.. لقد تقلّصت المساحات المتاحة للترابي وللسياسيين بصورة عامة إلى حد بعيد.. لم يعد الخطاب ولا المفردة السياسية جاذبة للكثيرين، وضعفت الرغبة لدى عامة الناس في الاستماع. ربما تكون في المساجد بعض السلوى والتعويض.. ولكن حتى هي ذاتها أصبحت تضيق على الترابي، المساحات أمامه صارت تتقلص الى حد كبير.. أقول هذا من واقع ما حدث في مناسبة عقد قران نجل المحامي غازي سليمان، وارتفاع الأصوات تطالب الترابي بالكف عن الكلام.. لست أدري، هل استثقل بعض الحضور حديث الرجل في المناسبة، أم أنهم اعترضوا على المضمون الذي ندّد فيه الشيخ بتغييب العروس عن حضور عقد نكاحها؟. ربما الفكرة التي ظلّ الدكتور الترابي يطرق عليها بشدة (باخت) وارتخت الحبال المشدودة عليها.. أقصد فكرة حضور العروس لعقد نكاحها. ولكن أن يذهب بريق بعض الأفكار أيسر كثيراً من أن يخبو البريق عن المفكر.