دراسة مقارنة بين إسهامات عثمان دان فودي في صكتو والشيخ احمد التيجاني والميرغني الكبير وأحمد الطيب البشير في ديار الفونج. بمنهج الثنائيات ، فهناك إفريقيتان ، إفريقيا الشمالية ، المطلة على المتوسط والمتأثرة بمثلث ثقافي متداخل يستمد مكوناته من ثقافة البحر الأبيض المتوسط وثقافة البحر الأحمر والثقافة الصحراوية ، وإفريقيا ما وراء الصحراء التي تكيفت مع مطلوبات الغابة والثقافة الرعوية والإكتفاء الذاتي بمطلوبات العشيرة والقبيلة. عرفت إفريقيا الشمالية أبجديات وكتابات المثلث الثقافي من يوناني إلى روماني كما سبقت العالم إلى إنتاج حرفها الخاص من هيروغليفي إلى جعزي ومروي وقبطي ، كما عرفت الأديان السماوية منذ فجر التاريخ مع الإبراهيمية واليهودية والمسيحية والإسلام، ولكن اختلف الحال في إفريقيا الغابة التي دار إنتاجها الروحي حول الكجور والسحر وأرواح السلف والطوطم وعبادة الثعبان الذي اعتبرته معظم القبائل الإفريقية مسكناً لأرواح السلف. وما بين إفريقيا الموصولة بالمثلث الثقافي ، وإفريقيا المقطوعة عن هذا المثلث ، تبرز إفريقيا التداخل والتواصل ما بين الإفريقيتين ، وقد عرفت إفريقيا هذه - ببلاد السودان الموصولة بالبيضان وهو مصطلح نحته المؤرخون العرب ثم عدله المكتشفون والمستعمرون من الأوروبيين حيث تم تقسيم السودان إلى سودان غربي يشمل " مالي والنيجر وأجزاء من موريتانيا حتى نيجيريا الحالية» والسودان الأوسط وهو تشاد والكمرون وانحاء من دارفور ، والسودان الشرقي وهو جمهورية السودان الحالية . مثلث بلاد السودان همزة الوصل كما يقولون ، بين إفريقيا المثلث الثقافي وإفريقيا الغابة وبذلك صارت رواقا للإفريقتين وجسر تواصل بينهما علما بأن حواجز الغابات والمستنقعات والأمراض والحيوانات المفترسة عملت على إضعاف التواصل مع إفريقيا ذات الطبيعة الغابية والإستوائية . نهضت في بلاد السودان ، سلطنات وممالك إسلامية في الفترة ما بين القرنين العاشر والثامن عشر الميلاديين مثل غانا ومالي وماسينا وصنغي ، وكانم وبرنو انتهاء بسلطنات دارفور والفونج في السودان الشرقي ، وبرزت فيها مدن ومراكز إسلامية كجني وتمبكتو واغاديس وكاتسينا وكانو وزاريا انتهاء بسنار ودنقلة وسواكن . مثلت بلاد السودان فضاء لمراكز الإشعاع الثقافي للمثلث الثقافي ، قدم العلماء المغاربة والمصريون والحجازيون اسهامات كبيرة في التواصل الثقافي وإنتشار الحرف القرآني ومحمولة من ثقافة إسلامية ودخلت بلاد السودان عن جدارة واستحقاق في نادي الثقافة الإسلامية ، وبرز ذلك في مؤلفات علماء السودان ومخطوطاتهم ، كعبدالكريم المغيلي والذي ينحدر من جذور مغاربية ولكنه قضي معظم عمره في مدن السودان في القرن الخامس عشر الميلادي ، أي قرابة الثلاثين عاما وكتب فيها كتبه مثل " تاج الدين فيما يجب على الملوك ، وكأحمد بابا عالم تمبكتو الكبير المولود في عام( 1556م) الذي له أكثر من خمسين مؤلفا ، ذاع منها صيت كتابه " نيل الإبتهاج بتطوير الديباج " وكمحمود كعت " المولود في (1468م) وكتابه " تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس " اصدارات اليونسكو 1964م وعبدالرحمن السعدي المولود في( 1596م) وكتابه " تاريخ السودان انتهاء بكتاب طبقات ود ضيف الله في السودان الشرقي لمؤلفه محمد النور بن ضيف الله - المولود في 1727م والمتوفى سنة 1810م. ومما يدل على قوة ملوك بلاد السودان ، أن ملك مالي يعتقد أنه لا يوجد في العالم أجمع سوى أربع ممالك يمكن مقارنتها بمالي وهي التكرور وبغداد والقاهرة واليمن، وقد ورد في وصف ملك مالي منسا موسى، الذي اشتهر بحجته عن طريق القاهرة ، انه كان شابا أسمر البشرة وسيما ممتلئا طويل القامة ، كما كان متبحرا في الفقه المالكي ، شديد التمسك بدينه ، أدى فريضة الحج في عام 1324م وتفاوت تقدير حجم مرافقيه ما بين ستين ألفاً إلى خمسة عشر ألفا. وتميزت الحركة الفكرية في السودان الغربي بقوتها وتأثرها بالعقل المغاربي ولكن كان لها خصوصية في استقلالية الحركة الفكرية عن السلطة السياسية وأجازت الجهاد ضد الحاكم الظالم على عكس أطروحات الفكر السني المشرقي الذي كان يتحري تجنب الفتنة على رأي جماعة " نحن مع من غلب " وبالنسبة للمغيلي فإن حكم الحاكم الظالم حكم الكافر والمخطط ورأي المغيلي في الجهاد ضد هؤلاء أولوية على مجاهدة الكفار . واهتم كذلك أحمد بابا بقضايا الإصلاح والتجديد ولخصه في المقدرة الفكرية والعقلية على الإحاطة بعلوم الشريعة والاصول والفقه وإستنباط الأحكام وتقديم الفتوى والتعليم والتربية لإحياء النفوس ، وبفضل جهود المغيلي وأحمد بابا برزت في السودان الغربي مدرسة تجديدية إسلامية ، قائمة على خصوصيات السودان الغربي وإن جمعت القسمات المشتركة للتراث الإسلامي بينها وبين بقية الحركة العلمية الإسلامية ، واساس هذا الفكر العناية بالقرآن الكريم ، إستنساخا وإستظهارا وحفظا وتلاوة ونسخا ، ولذلك شاعت في هذه المنطقة المخطوطات القرآنية على رواية ورش وظل القرآن الكريم أساس حركة الحياة العلمية ثم كتب الصحاح في الحديث النبوي بالإضافة إلى سيرة ابن هشام وكتاب الشفاء للقاضي عياض وتفسير الجلالين ورسالة بن أبي يزيد القيرواني في الفقه ورسالة مختصر خليل بالإضافة إلى مدونة سحنون في الفقه المالكي . تأثر علماء السودان الغربي ، منذ القرن الثالث عشر بتيارات التصوف كما تأثروا بأفكار السيوطي عن المهدي أو المجدد ، ويمكن القول بأن تحديات العمل الإسلامي وأولوياته اختلفت عن الوضع في المغرب العربي ومصر والحجاز والشام لأن تحدي الثقافة الإسلامية في السودان الغربي ، تمثل في التخليط ، أي خلط مباديء الإسلام وعقائده بالمعتقدات المحلية من تعاويذ وطقوس تتعلق بالسحر والخرافة وتقاليد الأهالي المتوارثة والتي كان يخشي أن تذوّب الثقافة الإسلامية فيها ، خصوصا أن المجتمع لا يعرف الحرف القرآني ولا اللغة العربية كما تطغي الأمية والجهل والفقر على المجتمع ، وبينما كان الصراع في المجتمعات الإسلامية يدور حول السلطة وبين الشيعة والسنة وبروز حركات سياسية وفكرية كالخوارج والمعتزلة والأشاعرة وطوائف الحلولية من المتصوفة وغيرها ، إلا أن بلاد السودان الغربي لم تعرف هذه التعقيدات وظلت على بساطة الثنائية ما بين الإسلام والوثنية الإفريقية والإسلام والتخليط . تقبل أهل السودان الغربي ، التصوف بتسامحه وطقوسه وشيوخه ، وميزة التصوف أنه يمرن معتنقه على قبول الآخر ويعلمه فن التعايش والعيش المشترك وإن اختلفت الرؤى والمشارب . ولعل مرد ذلك أن من خلق المتصوفة التريث في الأمور والمصالحة واحترام الآخر والصبر والمصابرة ، حيث درج المتصوفة على قبول الآخر دون استهجان لشخصه أو تقليل من ثقافته مع مشاركة الآخر في الزاد والهم . ويمكن رد تيار التصوف المؤسس في السودان الغربي ، للشيخ سيدي المختار الكبير الوفي الكنتي الذي برز في الفترة من (1729- 1811م ) والمسئول عن بذر بذور الطريقة القادرية والتي سجلت نجاحا في كسب قلوب الناس على يديه ، ولد الكنتي في نواحي تمبكتو " مالي الحالية " شخّص الكنتي علة الانحطاط في المجتمع المالي في إسقاط المغاربة لدولة صنغي دون تقديم بديل ، حيث أدى تدمير السلطنة الإسلامية ، لحدوث فراغ وفوضى وسلب ونهب وازدهار ثقافة التخليط والوثنية ، مما دفع الكنتي إلى تفضيل وجود دولة حتى لو كانت ظالمة على غرار الدولة المغاربية على الفوضى، لأنه على الأقل توجد عند المغاربة فكر الملكية وحفظ الأمن وإقامة المؤسسات على الشريعة الإسلامية.. ركز الكنتي على أهمية إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الجهاد لإجتثاث الشر الكلية ، وشخص الشر في إنتشار الفتن والبدع والفساد والغفلة ولكنه كذلك ونتيجة لتربيته الصوفية ، يعطي إستخدام الرفق واللين أولوية ، ورفض الكنتي التقولب في مذهب واحد ، كما دعا لفتح باب الإجتهاد وسعى كذلك لملء فراغ الدولة بإقامة شبكة تواصل منظمة وبتراتيب إدارية صوفية لوصل المجتمع رأسياً وأفقياً. وربما مرد نجاح التصوف ، إلى العلاقة الروحية التي تقوم على البيعة الروحية والإلتزام بنهج الشيخ وأهم ذلك الإلتزام بتلاوة الأوراد ، حيث أن تلاوة ورد الشيخ ، تجعل الشيخ حاضرا في ذاكرة مريده حتى إن مات أو بعد . نجح الشيخ الكنتي في نشر قيم الذكر والأوراد وتسليك الأتباع في الطريقة القادرية ومحاربة حظوظ النفس ، وممن عاصروه من شيوخ القادرية العالم جبريل بن عمر القادسي - وإن كنا لا نعرف الكثير عنه ، غير إشادة الشيخ عثمان دان فودي به ، حيث اعتبره شيخه وأستاذه قائلا ما أنا إلا موجة من موجات جبريل . ويمكن القول بأن كل هذا التراكم التاريخي لحركة الدعوة الإسلامية وجهود التجديد مهدت لبروز رائد التجديد في السودان الغربي الشيخ عثمان دان فودي ، الذي نجح في التنظير والتنزيل بمعنى أنه وضع الاساس الروحي والفكري لدعوته في مؤلفاته وأشعاره ، كما تمكن من خلق الجماعة النواة التي آمنت بأطروحاته وأفكاره وتربت عليها ثم شهد قيام الدولة التي سعت لترجمة أفكاره وهي الدولة الصكتية والتي شملت نيجيريا الحالية ونواحي الكمرون وشمال شاد وبعض النيجر . وفي المقال القادم نعود للشيخ عثمان دان فودي ثم الشيخ أحمد التيجاني.