في عصر يوم الثلاثاء 27اغسطس 1969م اي بعد سبعة ايام من انتقاله الى منزله حيث كان يتقبل العزاء في شقيقه علي الازهري الى مستشفى الخرطوم، فاجأته نوبة، ونفدت انبوبة الاوكسجين واحضرت اخرى وظهر انها فارغة.. وانتقل الزعيم الازهري الى رحاب ربه، وانطلقت صرخة مدوية من حجرات وردهات وعنابر المستشفى كرسالة موجهة الى كل اهل العاصمة بان الازهري مات.. وقتها تحولت العاصمة المثلثة الى مدينة واحدة فالنبأ الفاجع صدم وهز كل من بداخلها، بل ان النبأ سرى الى الاقاليم كسرعة البرق، وجاءت تقارير لقيادة النظام الجديد انها تتحرك نحو العاصمة، لواري، وبصات وسيارات وبقطارات النقل اذا وجدت. وسادت الربكة والاضطراب كل شيء، ولكن سيارة الاسعاف استطاعت اختراق شوارع الخرطوم لمنزله بام درمان ونقله لغرفته استعدادا لتشييعه في نفس مساء الثلاثاء 27 اغسطس 69. كانت وفاة الازهري المفاجئة لحظتها اشبه بقنبلة انفجرت وتطاير منها دخان وشرر وشظايا وحمم في وجه النظام الجديد، كان هنالك مجلس القيادة العسكري، ورئيس الوزراء ورد فعله، وايضاً وزراء ظلوا محسوبين على حزب الزعيم الذي رحل، وكان لكل مجموعة وجهة نظر، ورد فعل في هذا الجو المشحون بالتوتر والقلق والترقب وهم ينظرون عبر النوافد في مواقعهم المختلفة ويشهدون هذه الجموع التي تتدافع نحو ام درمان ونحو منزل الازهري مع ان بياناً رسمياً بوفاته لم يذع أو يعلن، ولكن الجميع كانوا قد عرفوا وقد حملت ملامحهم مزيجاً من الحزن والغضب والكمد في الفقد الفادح- وكان أقسى ما فيها التراكمات والضغوط التي احتملها الزعيم الراحل منذ صباح اعصار 25مايو 1969م، والاحتجاز القسري في منزله واحاطته بالدبابات كأنما هنالك معركة يمكن ان تنشب في بيت رجل متدين مستقيم ومناضل ووطني لا يعرف غير الحوار ولا يرد إلا بالحجة أو المنطق، وبهذه القيم نافح الاستعمار وقاد مسيرات ومظاهرات سلمية ضده ثم نقل الى حجرة صغيرة في سجن كوبر ثم ُمنعت اسرته عن زيارته، ثم ابلاغه بوفاة شقيقه الوحيد علي الازهري ثم رحلته لام درمان مع السيد محمد عثمان الميرغني لتشييع شقيقه علي ثم عودته واصابته بنوبة قلبية مفاجئة ثم نقله الى المستشفى ثم رفض علاجه في القاهرة ولندن ثم الوفاة المفاجئة. ............ وظلت الاسئلة تتطاير في حيرة وقلق لقد أحس بعضهم أنهم وراء أسوار بينما الذي رحل اصبح خارجها، وان الذين يتدافعون ويتجهون الى داره بهذه القوة والغضب معا، وبذلك الاندفاع البشري الهائل يجعلونهم يحسون ان ثمة مخاطر ما، فلا احد يعرف ما يحدث في الساعات القادمة. وطرحت اسئلة متأرجحة هل يذاع بيان وفاته وبأية صيغة؟ هل يعجل باذاعته ام يؤجل؟ وما الذي يقال عنه؟ العجيب، ان هنالك من رأي اذاعة النبأ ضمن نشرة الوفيات في الساعة الخامسة، اي ان تتصدر النشرة الانباء المحلية والعالمية ثم اذاعة الوفيات ومن بينها وفاة اسماعيل الازهري المعلم السابق، وللدهشة فإن هذا الاقتراح وجد طريقه للتنفيذ وبتلك الصيغة، اي اذيعت نشرة الخامسة التي تابعها الجميع في انتظار ما يقال بعد ان أغفلت اذاعة النبأ في نشرة الثالثة، وفي نهاية نشرة الاخبار اذيعت الوفيات ومن ضمنها وفاة اسماعيل الازهري المعلم السابق. ويفيد نشر نص البيان مساء 27 اغسطس 1969م توفى اليوم السيد اسماعيل الازهري رئيس مجلس السيادة المنحل، وقد ولد الفقيد في نوفمبر 1900م وأتم تعليمه في كلية غردون قسم المدرسين العام 1921م ونال درجة البكالريوس في الآداب من الجامعة الامريكية ببيروت 1930م، وكان المرحوم قد اصيب بنوبة قلبية قبل بضعة ايام نقل على اثرها الى مستشفى الخرطوم الجنوبي ولما ساءت حالته، استدعى رئيس الوزراء عدداً من كبار الاختصاصيين العرب في امراض القلب للاشراف على علاجه إلاّ ان المنية عاجلته وسيشيع جثمان الفقيد غداً الاربعاء، رحمه الله رحمة واسعة واحسن عزاء اسرته. وانعقد اجتماع طاريء لمجلس أمن النظام الجديد، لبحث قضية تشييع الزعيم الازهري والتي اعتبرها قضية أمنية في الدرجة الاولى، وجاءت مجموعة مواطنين وفي مقدمتهم السيد أحمد الطيب بابكر ووالده من قيادات ثورة 24، ونقلوا استنكارهم لمواصلة الاذاعة «راديو ام درمان» للبرامج العادية في حين ان الواجب يحتم الغاء البرامج واستبدالها بتلاوة آي الذكر الحكيم احتراماً وحزناً وتجاوباً مع الحزن الجماهيري في رحيل زعيمهم اسماعيل الازهري، وجاءت اجابة مسؤول في النظام انه يمكن ايقاف البرامج العادية للاذاعة واستبدالها بتلاوة آي الذكر الحكيم شريطة استعجال دفنه، واعتبر السيد احمد الطيب بابكر ان وضع الامر على هذا النحو انما هو بمثابة مساومة فجاء رده الفوري، افعلوا ما ترونه، وسنفعل ما نراه، اي اننا لن نعجل بدفنه في مساء نفس اليوم وانما في اليوم التالي. ان أجهزة الاعلام كلها في ايديكم افعلوا بها ما تشاءون ولكنكم لن تستطيعوا تغيير برنامجنا ولن تستطيعوا منع أحد من التشييع. أما في التلفزيون وقد كان مديره آنذاك الاستاذ علي شمو فقد اخذ قراره فاوقف البرامج العادية واذاع تلاوة القرآن ثم طلب من المذيع أحمد سليمان ضو البيت نقل النبأ الحزين عبر التلفزيون. ثم نأتي للمواجهة بين السيد محمد عثمان الميرغني وممثلي نظام مايو ولمشهد التشييع وبيان النظام الجديد بعده وما فعلته اللجنة التي كونت لحصر أموال وممتلكات وعقارات الزعيم اسماعيل الازهري ويا لها من مفارقات مثيرة ومحزنة.