هل ما زالت مركبات الشروق تتحرك بين السهول الغريب؟ هل ما زال الدخان هو الحائط الخامس في المكان؟ هل ما زال الطير الحزين يصرخ مطالباً بفتح البوابات؟ هل ما زالت بواكير الخريف تلّوح للراحل في الليل وحيداً، ثم تنصرف عنه؟ هل ما زال النادل يمسح حبات العرق عن جبينه، بينما ينهمر المطرُ خارج المقهى؟ هل ما زالت روح الشاعر تغرق طوال الليل؟ وغيابه يطولُ ويطول؟ هل لاتزال روح الشاعر محرجةً وهو يدخل في أظافره ويموتُ حرجاً؟ هل ما زال الشاعر يسير مع أصدقائه مثل الخرابات القديمة، ويموتُ على الرصيف بلا صديق؟ هل ما زال خيول الشاعر تتعب، وتضلُ الطريق؟ هل ما زال قلب الشاعر مفتوحاً يدخله الجرحى، وتُلقى فوقه نقالات المصابون؟ هل ما زال الشاعر، وحيداً، يفكرُ في الزمان المرّ والإنسان المهزوم؟ هل وهل وهل وهل .... غاب عبد الرحيم أبوذكري وظلت الأسئلة الكبرى حيرى! لم يُخلّف الشاعر الكبير عبد الرحيم أبوذكري شيئاً بعد أن أحرق كل أوراقه، وما كتبه، وانطلق بجسده النحيل في سماوات مدينة موسكو المتجمدة من البرد في شتاء العام 1989، ليموت في الصقيع، منتحراً، في سابقةٍ هي الأولى لشعراء وطنه الذي بكاه كثيراً في قصائده، وكان من أهم أسباب رحيله بتلك الطريقة، مأسوفاً على شبابه، وعلمه، ومعرفته الأدبية، ونبوغه (الجاف)! بعيداً عمّا اتصف به عبد الرحيم أبو ذكرى من التأثر الكبير، بل والكامل بالطبيعة، وذوبانه فيها، وإدمانه لاستخدام مصطلحات لم توجد عند احدٍ من أقرانه من قبيلة الشعر والشعراء في السودان، مثل : الطيور الجارحة، السماوات النازفة، جثث الموتى، الشهب والأفلاك، النسور الجارحة، الزجاجات المهشمة، الأراضي الصلدة، المباني الصامتة، الطيور النائمات، الظلال المُعارة، المجرات الخريفية، الأرصفة المتعبة، النيازك والشهب، الجبال والملائكة، الجحيم والعبيد، المعاطف الضبابية، العواميد الوحيدة، البيوت الخشبية، الإسفلت الصامت، الأنفس اليابسة المظلمة المعطوبة، المنازل الرمداء والحطام، المدافن السوداء، برزخ الأحلام، حبل المشنقة، الحزن الماجد، البحر العريض، الشبابيك الحديدية، المصابيح السماوية، كلاب البحر، القراصنة الكبار، لحظات الرعب، اللهب الحارق، الجياد الحرة المطهمة، أحاسيس العصور، الطاحونة العجوز، سائل الفيروز، غرق الخناجر، الجلاميد المحطمة، المصابيح المسائية، الكلاب الضالة، الرسل الجحمية، خشخشة الأكفان، الزمن القميء،.... وغيرها، بعيداً عن هذه المصطلحات نحاول أن ننفذ من خلال (الجدر الحديدية، على طريقة أبو ذكرى نفسه، علنا نلقى بعض الضوء ونجد مفتاحاً آخر إلى قلبه الموجوع بالوطن الذي مات على ذكراه، بعيداً عنه. يتخذ أبو ذكرى عدداً من الأساليب والتعبيرات للتعبير عن حبه للوطن، حيث ينحى أحياناً إلى قراءة التاريخ من جديد، عبر الأمنيات للوطن، ويفتح الباب واسعاً أمام برنامجه الخاص، وأمنياته للوطن، فلا ينسى، «رطب القنديلة»، و»العاج»، و»خشب الزانة» ، «الكنداكا» ومروي، فيربط كل الوطن برمزه المعروفة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، والوسط، والشرق والغرب، وكلها معطياتٌ يجمعها، بقوةٍ هائلة تأتمرُ بإشارةٍ منه فقط، كما كان يفعل سيدنا سليمان عليه السلام مع جنوده المطيعين الذي تمناهم أبو ذكرى لما لهم من قوة على التغيير في لمح البصر، ليصنع من هذه الأمنيات، قلادةً وعقداً تعبيراً عن ارتباطه بالوطن، والتزين به، يقول : وافرحي لو كانت هذه الدنيا ملك ذراعيّ لو أن جنود سليمان المردة كانوا أحياء لأمرتُ كريمة أن تترصدني بتلال القنديلة الرطب لجلبت العاج وأخشاب الزان وأمرت الكنداكا أن تأتي بأساطير العهد المرويّ وفجرتُ عيون الماء ليغسلنا تيار الماء فأصوغ قلادة شوقٍ أنظمها شعراً في الوجه القمري في قصيدة «أكتوبر 1964» التي يصف فيها بطريقته الدرامية بدايات الأحداث من التفكير في الثورة حتى هبّة الثوار، يخاطب القوات العسكرية، وهو يعلن «مبطناً» وقفته إلى جانب الثوار، المؤمنون الذين هبوا وتدافعوا بعد أن أكملوا صلواتهم منذ الصباح الباكر وحتى العشاء، ورتلوا القرآن الكريم وراتب المهدي والسيّر الشريفة والمديح، يخاطب الثوار قائلاً وهو يشرح حال الوطن وأرضه التي امتلأت بالنور مع التغيير الجديد، ويطلب من الجندي أن يتوارى خجلاً لما فعله للثوار، ووقوفه ضدهم، ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يسامحه عما فعله. في القصيدة أيضاً نلمح نزعات أبو ذكرى الدينية: يا ابن الرجال الطيبين ألق ِالسلاح، لعل رب العالمين يرضى عليك بعفوه .. هيا للسجود مرّغ جبينك في التراب فالأرض قربك تستعيد شبابها وتعودُ نوراً فوق نور مزّق عماكَ تعودُ نوراً فوق نور في أقسى لحظات الغربة، يتذكر أبو ذكرى الوطن، ولا يجد أمامه غيره، في أعلى درجات الصقيع الأوروبي، يشتاق ويحن إلى صيف الوطن اللافح، إلى أمطاره الخريفية الجميلة، ليسير تحتها إلى جانب حقول القمح، والأشجار المختلفة الأشكال والأحجام، ويبتل بحبات المطر، لينسى الغربة والوحدة رغم الزحام، والجليد. يقول في قصيدته «غربة»: من بلد الغربة والوحدة في الزحام يريد أن يهرب لكن كيف يريد أن يعود لبلاده للصيفْ وأن يبله كالقمح والأشجار مطر الخريف ولحبه للوطن، يجعل أبو ذكرى ملامح الوطن الجميلة هي مقياسه الأوحد، ولونه الوحيد للفرح، والاستبشار، فرحاً بمقدم أحباؤه، حيث يحس ويسترجع طعم المزارع عند نجاح محصوله، ورؤية تعبه واجتهاده يثمران، وعلاقات الأشجار والندى والأنهار، وهو ما يزيد حنينه للبيت/ الوطن الصغير بكل التفاصيل الحميمة. ويجعل أبو ذكرى من كل صورة أمامه في الغربة لوحةً مقابلةً لما يطويه قلبه من ذكرياتٍ هو في أشد الحاجة لمن يذكره بها، فيتخلق الأعذار لذلك، فلون العينان اللتان تثيران فيه هذه الذكريات يذكره بالمنزل، وصباح العيد بكل مظاهره البهيجة يقفز إلى الذهن عندما يجلس لتناول الشاي، وصوت النهر وإيقاعه المنتظم يعيدان إلى سمعه الصوت المنتظم الجميل لطلاب الخلاوى أثناء تلاوة القرآن الكريم، يقول : تؤرقني عينان عينان أحس خلالهما فرح الزراع إذا طاب الموسم وندى الأشجار وفقفقة الأنهار لونهما الزيتوني يذكرني بالبيت وأوقات الشاي بصباح العيد بشتلات «الزونيا» وخلاوى القرآن لا يخفى على أحد ممن طالع أشعار عبد الرحيم أبو ذكرى من خلال ديوانه «الرحيل في الليل» تلك الأغنية التي لحنها وتغنى بها الفنان مصطفي سيد أحمد، ملاحظة تلك الحيرة الكبرى في نفس أبو ذكرى، والخوف من المجهول، وتلك الحساسية المرهفة والبالغة الدقة في النظر إلى الكون من خلال الوطن، حيث يربط الأحزان والحيرة بالشتاء القارس، والثلوج الجامدة، والراحة والفرح بالصيف والدفء، محققاً ثنائيةً ما بين الطبيعة وأحاسيس النفس البشرية، وهي الرمزية والانغماس في الطبيعة التي كانت سائدة بقوة وانتشار كبير في تلك الحقبة من السبعينيات التي كان يغرد فيها أبو ذكرى، ويصوغ كل ذلك في تساؤلات يطلقها إلى الطبيعة، ومعها نفسه الحيرى، ولكن دون جدوى، حيث يظل السؤال أمنيةً ، ليس إلا، يقول : هل صحيحٌ أنه بعد الشتاء يسقط الدفء السماوات علينا مددا هذا المساء أبيضاً مؤتلقاً فوق الحديقة ووراءُ الجسر تنهار العواميد الوحيدة؟ لكنه لا ييأس أبداً، حيث يظلُ محتفظاً برؤاه وأحلامه التي يسميها أنواراً في وجه الظلامات التي أحاطت به، وبتجربته الشخصية والمتفردة، ويظل متشبثاً بالأمل، في انتظار أن يأتيه الفرج من وطنه برمزه الصيف، قائلاً : ها أنا أنقلُ أنواري في الليلوأرجو الصيف والنجمات والدنيا الغريقة ها أنا أنتظر البعث كل مساء هكذا... كل مساء بل، ويبرهن على قوة داخلية برغم الضعف الذي تبين ملامحه في كل قصيدة من قصائد ديوانه الوحيد، وينهض لأنه يحب الحياة، والرحيل، ليقاتل القُبح في كل زمان، وزمان، بدايةً بدواخله، ومعه الآخرون بلا شك، لتطيب الحياة، ويعادُ للزمان عطره المحبوب، يقول : ونقوم نمسح أوجهنا في السنين التي سوف تأتي في حشانا في خطانا ونحزُ براثنه القاتلة