السؤال عن الوضع المادي لسياسي مشارك في الحكم، لا تكمن صعوبة الوصول لإجابة شافية له في تنوع مصادر دخله لتعدد مناصبه ومخصصاته فقط، أوصفقاته التجارية إن وجدت، وغالباً توجد بشكل أو آخر، سواء في العلن أو بعيداً عن الأنظار في صمت ، فهناك سبب آخر يجعل من معرفة حقيقة الأوضاع المادية لمثل هذا الصنف هدفاً عسير المنال، هو عدم رغبة هؤلاء في الكشف عن ممتلكاتهم ومصادر إيراداتهم، التي يشي بها عدم الاكتراث بدعوات عديدة أطلقت تنادى بتقديم المسئولين لإقرارات مالية قبل الجلوس على مقاعد الجهاز التنفيذي. ---- السياسة نفسها، هي أيضاً مصدر دخل لكثير من السياسيين خارج دائرة السلطة، وإذا كانت الدولة والمؤسسات العامة توفر فرصة توظيف جيدة لبعض كوادر الأحزاب الحاكمة، فإن الأحزاب المعارضة تقدم على تخصيص مبالغ مالية محددة للمتفرغين من منسوبيها،مقابل قيامهم بالأعباء التنظيمية الموكلة إليهم، فالحزب الشيوعي على سبيل المثال يخصص للمتفرغين لأعماله التنظيمية مبالغ يؤكد سليمان حامد القيادي بالحزب أن قيمتها رمزية، تمنح بالتساوى لجميع المتفرغين، ومن بينهم محمد إبراهيم نقد السكرتير السياسي الذي لم يعمل في أية وظيفة حكومية منذ تخرجه، إذ عاد من بلغاريا بعد اكمال دراسته ليتفرغ بالكامل للعمل السياسي، وظل يتلقى ذلك الراتب الرمزي من الحزب، أما سليمان نفسه فيقول إن مصدر دخله الوحيد هو مخصصاته المالية كنائب برلماني عن الشيوعي، وهي حوالي أربعة ملايين جنيه بالقديم يدفع منها خمسة وأربعين بالمائة للحزب، أي ما يعادل مبلغ مليون ونصف مليون جنيه، وفقاً للائحة داخلية تلزم كل من يتلقى دخلاً بفضل الحزب بتحويل هذه النسبة للمكتب المالي، بينما يدفع العضو العادي خمسة بالمائة من دخله، تم تخفيضها مؤخراً لثلاثة بالمائة تقديراً لظروف العضوية، ويسرد حامد قصة للتأكيد على استقلالية حزبه وأعضائه، تفيد بأن مسئولاً نافذاً أهدى لهم صناديق فطور في رمضان، رفضوا قبولها وقاموا بإرجاعها له، وعاد الرجل قبل مؤتمر الحزب العام ليعرض في مكالمة هاتفية تقديم مساعدات مالية لأنه (شايف حالتم تعبانة)..ولقي العرض ذات مصير الهدية الرمضانية. وبينما يمنح الشيوعي عدداً غير قليل من المتفرغين رواتب مقابل الخدمات التي يقدمونها، لا يدفع المؤتمر الشعبي رواتب لعضويته وقياداته، باستثناء بعض الموظفين في المركز العام كما يؤكد عبد الله حسن أحمد نائب الأمين العام، إذ أن كل القيادات غير متفرغة وتزاول أعمالاً أخرى. الشيخ حسن الترابي، الأمين العام للشعبي، لا يتقاضي راتباً من الحزب، وبينما يقبل الشيخ على نشاطه السياسي ومساهماته الفكرية في الحركة الإسلامية الدولية يعتمد تصريف شئون العائلة على أبنائه صديق، وعصام ، وأحمد وعمر، على استثمارات العائلة العائدة للسيدة وصال كما يقول كمال عمر القيادي بالحزب الذي بات مقرباً منه في الآونة الأخيرة، فعصام يربي بعض الابقار (الفريزين) ويزاول الاستيراد، كذلك أخوه صديق الذي يزاول التجارة ايضاً، ويعلق عمر على الأقاويل التي شاعت خلال فترات ماضية عن ثراء عصام ومعاملاته المالية بالقول أن كل الاسقاطات التي يشير إليها البعض عند الحديث عن نشاط عصام التجارى غير صحيحة، ويصف نشاطه التجاري بالعادي، ويضيف أن كتب الشيخ الأخيرة طبعت بدعم الإخوان ولا يعود عليه ريع منها إذ أنها توزع بالمجان، كما أن الشيخ لا يحتفظ بحساب مصرفي أو (شنطة) قروش كما يؤكد كمال عمر، ما يخالف تلك الصورة المفرطة في الثراء التي كانت ترسمها الأقاويل التي سمعها - عمر- قبل اقترابه من محيط د.الترابي. أحد أبناء الشيخ، بدا مرتاباً عندما سألته عن مصادر دخل والده، ورغم أنه أبدى تقبلاً لفكرة البحث عن مصادر دخل السياسيين، إلا أنه أعتبر الأمر شأناً خاصاً، وقال: (نحن نعيش بفضل ربنا..) قبل أن يضيف بلهجة ذات مغزى( وليس لدينا عمارات..أو شقق في دبي..أو فلل في ماليزيا). عمل الإمام الصادق لفترة قصيرة جداً في وزارة الخارجية، قبل أن يغرق في عالم السياسة، ويحكم البلاد، ثم يدخل إلى السجن، ويصبح معارضاً، ومثله مثل مولانا محمد عثمان الميرغني، يمتلك الإمام بعض العقارات والأراضي، أبرزها مشروع السقاى، وأراض بمنطقة سان جيمس في الخرطوم، وغيرها من الأملاك التي آلت إليه بصفته أحد أبناء آل المهدي، وشهدت فترة الديمقراطية الثالثة حادثاً لافتاً، إذ أقرت الحكومة التي يترأسها السيد الصادق مبدأ التعويضات عن مصادرات عهد مايو، مصادرات شملت كثيرين من بينهم آل المهدي، لكن ضجة أثارتها الصحف حينها دفعت الإمام إلى تجنب أخذ نصيبه من التعويضات، رغم أنه يستحقه. ويقول مادبو آدم مادبو عضو المكتب السياسي السابق بحزب الأمة إن الحزب إبان وجود الراحل عمر نور الدايم في الأمانة العامة كان يخصص خمسين مليوناً من الجنيهات (بالقديم) للصرف على بنود من بينها مخصصات المتفرغين، لكن ذلك التمويل توقف في عهد الراحل عبد النبي، ويقول مادبو إن دخل والده، آدم مادبو القيادي بالحزب ينحصر في مكتب العائلة للاستشارات الهندسية المفتوح منذ السبعينيات، بينما تتسع مصادر دخله هو لتشمل مزرعة، وبعض الأنشطة الزراعية الأخرى، ويضيف أن العديد من قادة حزب الامة يمتلكون مصادر دخل منفصلة عن الحزب، مثل محمد إبراهيم خليل الذي لا يزال يعمل في مكتبه الاستشاري رغم أنه تجاوز السبعين، ويعتبر مادبو أن التفرغ، واعتماد السياسي على مخصصات مالية يدفعها الحزب يجعل مواقفه تتأثر بهذه الوضعية، ويقول إن بعض أعضاء حزب الأمة أيدوا اتفاق التراضى مع المؤتمر الوطني لأنهم توقعوا أن يوفر الاتفاق لهم بعض الوظائف في جهاز الدولة. مصادر الدخل غير المعلنة للمعارضين، أو البعض منهم بالأحرى، ليست داخلية فقط بحسب اتهامات هنا وهناك، ويمضي هؤلاء إلى أن كثيراً من الإعانات والمساعدات الأجنبية تجد طريقها بصورة أو بأخرى إلى جهات ومؤسسات عاملة في الشأن العام، قبل أن تشق طريقها إلى هذا الجيب أو ذاك. في نهاية المطاف، يبقى السياسي شبيهاً بالشخص العادي ربما، ويجد نوعاً من الحرج في الحديث والكشف عن أوضاعه المادية ومصادر دخله، سواء أكانت قليلة تدر بالكاد ما يكفي لسد الرمق، أو وافرة تفي بالحاجة وتزيد، وجه الشبه الآخر أن الشخص العادي قد يقول الحقيقة بشأن موارده المالية، وقد يعمد إلى إخفائها، والسياسي ليس بعيداً عن محاولة الإخفاء تلك، تأسياً بالقول السائر عن الرجل الإنجليزي، أنه لا يفضل الحديث علناً عن ثلاثة: الدخل، والزوجة، والمرض، أو تأسياً بغيره.