سأختار مكاناً بعيداً عن كرة شيخ مبارك التي تدور.. «وهي حتماً تفعل ذلك من عدم الشغلة». حانت من «تحية بللي» التفاتة إلى جهة النافذة التي كنت أنظر منها. فأخرجت لي لسانها. وما كدت أشرع في الغيظ حتى رأيت الحمار يقفز بقدميه الخلفيتين عالياً فطارت «تحية بللي» في الهواء ثم سقطت على الأرض بعيداً. سقطة أقسم بأني سمعت صوتها من مكاني البعيد. وتمنيت لو كانت بطيخة. ووجدت نفسي من غير أن أحس أقول بصوت مسموع «بت الكلب» أعقب ذلك صمت لهنيهة. لحظة الصمت تلك نبهتني للزمان والمكان الذي كنت فيهما. أدرت رأسي لداخل الفصل بحركة بطيئة. ووجدت عشرات الاعين تحدق بي. شيخ مبارك بعد ان كان وجهه للسبورة دور نفسه نصف دائرة. وأصبح مواجهاً لنا. اتجه بنظره إلى حيث رأي التلاميذ ينظرون. فوجدني هناك. نظر في عيني منتظراً تفسيراً. أحسست بالارتباك والخوف فوجدتني أقول.. «نملة يا فندي».. قرصتني.. لكن كتلتها» ضحك بعض التلاميذ ضحكة قصيرة.. وقف شيخ مبارك متردداً. وران صمت. ثم بدأ شيخ مبارك يدور نفسه بطريقة عكسية فأكمل الدائرة في اتجاه السبورة. إلا أن التلاميذ ظلوا يلاحقونني بنظرات ما كانت راضية بما آل إليه الحال. فقد غاظهم ان تمر القصة بلا عقاب وضاعت المتعة والترفية الذي كان من الممكن ان يحظوا به. أما أنا فتنفست الصعداء على الرغم من علمي ان شيخ مبارك أضاف الواقعة للحساب. بعد سنوات جرجرنا أقدامنا أنا و«ود النديهة» وأبو قنبور إلى بيت العرس. كانت «اللعبة» في ساحة كبيرة في طرف الحي. «ناس كتار بالحيل كان شتت الملح ما تقع منه حبة في الواطة» ضاقت الساحة بما وسعت.. ناس تغني.. وناس تبشر.. وناس ترقص.. وناس تعرض.. وناس تزغرد.. و«هيلمانة وهلولة». جاءوا بالعروس.. مغطاة بفركة القرمصيص» البنات دقن الدلوكة. كشفوا عنها الغطاء بقراءات وتمتمات وتعاويذ اتضح ان ما تحت الغطاء هو «تحية بللي» اندهشنا وما كان لنا أن ندهش فقد كنا نعلم مسبقاً بأنه عرسها. لكن العروس لا تكون دائماً البنت التي كانت. ما علينا.. تململت بقدميها المخضبتين. كانها تستعد للعدو. تقوست فتقوس الهواء حولها والساحة ونظرات المشاهدين. تشابت بعنقها إلى رطب نخلة بعيدة فاتجه الناس بأنظارهم إلى حيث تشابى العنق علهم يشاهدون الطائرة التي قتلت حمار كلتوم.. ست اللبن. رأوا النجوم تتساقط على صدرها واحدة فواحدة. فغشاهم ما غشاهم من العجب. حركت كل وتر وكل عصبة في جسدها فخشخشت الحلى وتأرجحت الحرائر وصاح «ود النديهة» «إنصر دينك ». كنت مثلي مثل غيري أشاهد وأتأمل واضفت إى ما يشاهده الآخرون متابعتي لقطرة من العرق انسابت من عنقها وانحدرت نازلة على درب العبيد. إتكأ رجل عجوز على عصاته وضع نظارته وتململ كثيراً وحول عصاته وإتكاءته من جانب إلى آخر أكثر من مرة واستغفر الله أكثر من مرة وزفر هواءاً حاراً خرج من بين شفتيه بصوت وانتهى إلى القول.. «والله حاجة تستحق الفرجة» رأيت أبو قنبور. منزوياً بعيداً عن الناس فأدركت انه يعبر عن ما يجيش بنفسه. **** كانت تلعب معنا «الدافوري» بكرة الشراب و«البللي» كنا صبيان في السابعة والثامنة والتاسعة من العمر. كانت «فردة» ترتدي مثلنا العراقي وسروال الدمور. أبوها كان يقول أنها «محمد ولد» كانت «أحرف» من يلعب البللي. قال «ود النديهة».. «وأحرف من يأكل العجور بالشطة» سماها الأولاد «تحية بللي» أخفوها عنا لفترة قصيرة خلف باب السنط. وحين عادت الخروج كانت الاعياد قد تقافزت على جسدها.. فباركته.. اختفت قهقهة الضحك المشاكسة ومشية الصبيان و«أتحداك» اصبح كل شئ فيها ناعماً وصارت مثلها مثل البنات تقول بين كل كلمة وأخرى «أجي» وما سمعتها تقولها من قبل. واكتشفنا ان لها غمازتين ما عرفناهما من قبل بسمتها صارت ورداً أبيض «والله لو كنت شفت البسمة دي أيام شيخ مبارك كنت رسمتها في المدونة الطبيعية مع فاكهة الموسم.. البرتكان أبو صرة.. «المخلص ود النديهة» حين تمر بقربك تحس بنسمة ندية ومنعشة «طراوة» ولها رائحة بالكاد يتذوقها لسانك بين الشاي والنعناع. في ليلة العرس تناول «أبو قنبور» أول كأس من الخمر ولم يتوقف عنها بعد ذلك. ود النديهة صار يبتعد عنا يوماً بعد يوم وشيئاً فشئياً حتى انزوى تماماً مع حمامته وعصافيره وسيجارته «الخاصة». *** سمتني نساء الحي «حسن ود ستونة» وفي أغلب الاحيان «ود ستونة» بلا حسن. وأحسب ان أمي كانت مبسوطة لذلك. فأنا ابنها حقاً. ولم يكن لأبي شيئاً غير أجر المناولة. فقد هجرنا منذ زمن بعيد. وكنت ما ازال صغيراً «أسامي الأبوات براها ما بتنفع بشئ». الواحد لازم إكون عندو اسم خشن.. وحقو براه.. ويكون بخط واضح.. عندك مثلاً ذي إسمي أنا «ود النديهة».. وعندك «أبو قنبور» وحتى اسمك إنت «حسن ود ستونة».. أسامي صاح.. الاسم تطلع في حروفو وتنزل زي التكنك بتطلع في جبل وتنزل منو.. لا بنساها زول ولا بغلط فيها زول.. كان وقفت في بلاد الواق واق وناديت الاسم العالم كله يعرف انت قاصد منو مش لا مؤاخذه ذي الاسامي المتل حتة التلج تختها تحت لسانك تلقاها اتماصت.. «المخلص ود النديهة». **** تركت البلد. ليس إلى بلد بالتحديد. لكل مكان. واسم حسن ود ستونة يتبعني كالوشم. وتحية بللي حبل الوريد والشريان المتشعب. أول من كان له رائحة الانثى. وأول النساء تخيلت حين اكتشفت إنني من الممكن ان أتخيل إمرأة. عرفت بعدها الكثير ولكني لم أعرف إلا نساء تجملنا بشئ منها. ظلت استثناءاً أبدياً كرائحة المطر. إمرأة بكل نساء الذاكرة البوهيميات. وطن. حين يتقلص الوطن ليصبح ذاكرة أشياء خاصة. ذاكرة لا يموت فيها الموتى ولا يسافر فيها العشاق ونسات حميمة. روائح وقصيرية. ودقة دلوكة تم تم وعرضة صقرية وسيرة من الحلة للبحر. حملت أساس «دلاقين» زحمت بعضها بعضاً في حقيبة صغيرة. قفزت سلم طائرة مولياً الادبار.. يممت وجهي تجاه «مدن السيح والريح» تركت كل شئ ورائي.. وما على هذا أسيت. «بت الكلب» وكبرياء جسدها الذي علم الخيول الصهيل. مدينتنا. وبيوتاً طينية بلطت بالزبالة وفاحت منهما رائحة اسطبلات الخيل مقاهيها مباخر من الشاي والقهوة والجنزبيل. بشاشة اعيادها. ورطانة اسواقها وسحنات لأناس كأنهم رسموا وظللت وجوههم بقلم الرصاص. ألوان بين البن المحروق والكاكاو. معكرة اللون أو المزاج وصارمة القسمات أبحث عنها في أطلس العالم فأجدها شكة دبوس مجدوعة عفو الخاطر بين خطوط العرض خمسة وعشرة. سافنا. من نافذة الطائرة رأيتها تفرش ملاءاتها على مرمى البصر. كل شئ يبتعد. رائحة الانهار في العشيات وظلال الاشياء والاشجار والجبال وطعم ماء النيل من زير جديد. وجروف يحرسها «همبول».. أم بور. وأم قرفة.. حفرة الجير.. وحي المغاربة.. فريق ريد.. فريق تقلي.. حي العصاصير.. والدباغين.. حي النار.. الاسكلا.. وبرمبل.. حي السواراب.. حولية زليخة.. وفرح عتوت شبعان صباحية. تركت كل «كراكيب» الطفولة والصبي وزمانها. تركت طعم تلك الرائحة بين الشاي والنعناع.. وما على هذا أسيت. تقافزت بين مدن العالم القديمة والوسيطة وما استقر بي حال إلا تبدل. تطاردني ذبابة تعيش من كيلك إلى أخرى وما من بابنوسة في الأفق.. في صخب ارتحل تتبعني زحمة جابودي وشكلي ودليب. من مدينة هجين إلى مدينة هجين ومن ظهر الخيول لظهر الخيول ومن نساء برائحة الطلح إلى نساء كزبد البحر. حميميتهن دافئة وذروتهن مباغتة. وما كانت الانهار بعذوبتها والبحار بزبدها وحرائق بكل طلح العالم لتعوض عن إمرأة استثنائية. نامت بخيرتها الاحاجي وألحت عليها الاغاني فصورتها كاملة البهجة. تركت تلك المرأة هناك. تحت عريشة بللها المطر. فتعطرت برائحة سعفها وتزملت على حفرة دخانها وخرجت أبحث عنها في جزر بعيدة علها سرنديب أو القمر أو الكناري أو هاواي أو كريت أو مصفوفة في حوانيت مدن بعيدة .