الخبر السار يا صديقي، الخبر الجميل، تذكرة ذهاب الى باريس، نعم باريس يا صديقي، باريس التي كثيراً ما تحدثنا عنها، كثيراً ما حلمنا بها. سأكون فيها بعد أيام. في قلبها وحضنها، سأذهب لأرى باريس أنا بلحمي ودمي، وبأم عيوني، سأشم رائحتها، سألمس جدرانها وأشجارها، سأرتمي في حضنها، كنت غير مصدق في أول الأمر، ولكنها الحقيقة، أمسك تناول، أنظر سأضعها أمامك، لتتبرك، لا أدري كم مرة اخرجتها، كم مرة تحسستها، إنني ومنذ أعطوني لها، أضعها دائماً في جيبي حتى أفرح بها من يفرح لي، وأغيظ بها من يعاديني، تذكرة ذهاب وعودة الى باريس، أخرجها وأدخلها متى أشعر بأنها تعبت واختنقت، متى شعرت بأنها تريد أن ترتاح وتتنفس وتطلب الرحمة، وأحياناً ألمسها، أتحسس سمكها، حتى لا يكون أحد اللصوص قد نشلها، أو أحد السحرة قد مسخها ورقة بيضاء، قل لي، كلمني يا صديقي، كن صادقاً، هل من السهل أن يمتلك احد في هذا الوطن تذكرة ذهاب وإياب الى باريس؟ أنت تعرف يا صديقي ذلك. يجب أن تكون شخصاً لك كيانك ولك اعتبارك، حتى تمتلك مثل هذا الكنز، وأنت تعرف بأني لست هذا الشخص، لست شخصاً مهماً في هذا البلد. هذه التذكرة، أهم عندي من خطاب حُب رومانسي، معطر، شاعري، كل كلمة فيه مليئة بالعاطفة والحنان والمودة، تاريخها الابتداء والانتهاء والشروط، أضمها وأحس بأن باريس تقبلني قبلات حارة، كأنها تؤكد لي حبها، وشوقها وأنها تريدني دائماً بقربها، أحس بأنها تسبح بي في الفضاء محلقاً سعيداً، كنا نقرأ وصديقي التعليمات داخلها، وكان المارة يضحكون، وكنا نضحك لضحكهم بسعادة بالغة، إنها بلا رائحة نستنشقها، لأنها رائحة صديقة يخفق قلبها لنا بين سطورها، لقد أعطتني هذه التذكرة، سكرتيرة موظفة، كانت مستعجلة، عندما أعطتني لها، تريد الذهاب للغداء، قدمتها لي كأنها ورقة عادية، كانت لا تدري وقعها علىّ، قدمتها لي كأنما تقدم طعاماً لإحدى قططها، أو حسنة لمتسول ما. يا لحظي، أخيراً تذكرة أصلية غير مزيفة، عروس لم تسافر مع أحد ما، سأسافر معها الى باريس عروسي أنا، قدمت يديّ الاثنتين لأمسكها، أمسكها حتى لا تقع على الأرض، قد تتبخر، قد تتمزق، قد تغير منها سجادة المكتب فتجرحها، قد يكون فألاً سيئاً أن تقع من يدي، تطير فرحة الى باريس، تسبقني الى هناك. واحترت أين أضعها، أين أخبئها حتى يحين الميعاد؟ في المكتب؟ داخل درج؟ في حقيبة يد متحركة في جيبي، قد تسقط فيدنسها التراب، احترت أين أضعها؟ إنها حقاً مشكلة. مشكلة صارت تؤرقني، صرت أحملها معي كتميمة، كفأل حسن، كقطعة رفات أحد القديسين. إنها هنا في جيبي، أتحسسها كما أتحسس قطعة مقدسة، شىء يتسلل الى روحك، تحس بالراحة عند لمسه، راحة خفية لا تستطيع وصفها، راحة تدفىء جسدك وروحك، تخدرك، وتسلب وعيك، قررت حملها معي في كل مكان. وأنا يا صديقي العزيز قررت شيئاً غريباً، أن أحمل عينيك أيضاً معي، لو كان هذا ممكناً، لو أنت تسمح بذلك سأحمل عينيك معي، الى باريس، لترى ما أراه، تتجولان، تبحلقان معي، سأرى باريس بأربع عيون عيني وعينيك.. باريس أكبر من أن نراها بعينين اثنتين، إنني هناك سأفتح عيني واسعة، تحتويان أكبر قدر فيها، لا يهمني أن يخاف أهل باريس، أن يفزعوا من عينيّ المفتوحتين الواسعتين من بحلقتي ودهشتي، لا يهمني خوفهم، وتعليقاتهم، بالعكس فليخافوا من عينيّ المبحلقتين، ليفسحوا الطريق واسعاً لهذا الزنجي المبحلق المندهش، يتركوا باريس لي وحدي، سأفتح حواسي ومسامي، وكل كياني لاحتويها. باريس يا صديقي تستحق أن نعرفها، ونندمج فيها، سأغادر اليها حاملاً معي كل عيون أهلي وأصدقائي، سأغادر وأنا أحمل أنوفهم وحاسة شمهم، ليشموا عطر باريس وهواء باريس، ورائحة أشجارها، وطرقاتها ومقاهيها، ومحطات قطاراتها الأرضية. سأغادر حاملاً أقدامهم، تتجول معي في طرقات باريس، في بلاد الفرسان الثلاثة وبودلير، وحدائق التويلرز.. نشم رائحة التاريخ الذي قرأناه في الكتب وأصبح حاضراً وماثلاً أمامنا. أريد أن أرى باريس، عياناً، قد تكون خيالاً موجوداً في الكتب والصور، كيف سأبدأ؟ فأنا لست وجيهاً بارزاً، لست رئيساً، ولا مديراً لشركة كبرى، أو مؤسسة ضخمة، ولست شخصاً مطيعاً أتتبع أحداً خطوة بخطوة، أنا شخص لا يحب الموسيقى الكلاسيكية، ولا الملابس الفخمة، فأنا شخص عادي، أمثل الحيارى والمساكين، والفقراء، أولئك الذين ضاعوا وسط الزحام، ولم يستدعهم أحد. أخيراً لقد استجاب الله لي، لعلني سأمثل هؤلاء المنسيين، الذين يتضرعون اليه في بلادي يومياً، أن ينعم عليهم بمشاهدة باريس، بدأت أعجب بنفسي، هذه النفس الطيبة، التي استجاب الله دعاءها وتضرعها، لعله اختارني ممثلاً لهؤلاء الحيارى والمساكين والمهمشين. لعلك يا صديقي قد تأكدت من مدى فرحتي وسعادتي بامتلاك هذه التذكرة، لقد مللت وضجرت من النظر الى باريس في صور المجلات وبطاقات المعايدة، ودعايات السياحة. مللت كل ذلك، مللت من أجزائها التي يختارونها بمزاجهم، أريد أن أرى كل ذلك، بمزاجي. بقلبي المنشرح، اكتشف الجوانب والأركان الخفية فيها، أراها أنا بمزاجي، أتجول فيها بحريتي تلك المدينة الغامضة الساحرة، المغامرة.. سأنظر لنفسي ولك، ولكل الحالمين بها في بلادي، ولغير القادرين الذين لن تتحقق أحلامهم وأمانيهم.