عندما يغني الفنان الجنوبي (سوري ليك إنت يا خي , كفّارة لي أنا) فإنه يوجه أغنيته هذه الأيام إلى عربي جوبا الذي يهم بالمغادرة بعد قرار الحكومة بإعتماد الإنجليزية لغة تدريس في مدارس دولة جنوب السودان .. اكتسبت اللغة العربية بعداً سياسياً بسبب الصراع بين الجنوبيين و الشماليين الذين درج الجنوبيون على إطلاق وصف (العرب) عليهم , و هم عرب باللسان أي باللغة , لذا لم تكن العربية محببة سياسياً للجنوبيين , لكنها كانت واقعاً ثقافياً فرضته العربية بقوتها حتى صار عربي جوبا المأخوذ عن العربية هو لغة التخاطب بين جميع الجنوبيين و الموحد بين شعوب الجنوب . اللغة أداة التواصل بين البشر حتى كاد البعض يعرف الإنسان بأنه حيوان ناطق , و لما أراد الإنسان ايصال معارفه إلى أخيه الإنسان كانت اللغة هي الجسر الذي تعبر عليه المعرفة . و لما انحازت دورة الحضارة في العصور الأخيرة إلى غير العرب أصبح حتى كثير من العرب ينادون بتدريس العلوم التطبيقية بلغات الإفرنج , و وجدت الدعوة معارضة لا إنحيازاً للثقافة الوطنية فحسب بل لأن الإنسان يفهم باللغة الأم أسرع مما يفهمه باللغة الثانية .. هو جدال في بلاد العرب , لذا يجد غير العرب حجة أقوى حين يعتمدون الإنجليزية أو الفرنسية لغة لتدريس المنهج المدرسي .. و عليه لا يستغرب إقدام الجنوبيين على إزاحة لغة لا يحبونها حتى و لو كانت تجرى على ألسنتهم .. لن يغادر عربي جوبا بين يوم وليلة , لكنه سوف يغادر بعد جيل أو جيلين وفق خطة ينحسر على إثرها المد العربي في أفريقيا .. و إذا تعامل الجنوبيون مع الأمر بعيداً عن المؤثرات السياسية فلن يضيرهم في شئ إعتماد الإنجليزية بلا حرب على العربية , فهي أيضاً لغة حية تضيف لمن يجيدها بعداً معرفياً و ثقافياً لا يستهان به , و قد تحدث من قبل الجنوبي لام أكول بلسان عربي مبين و هو يرأس المجلس الوزاري لجامعة الدول (العربية) حين انعقدت القمة في الخرطوم و وزير خارجية السودان لام أكول .. و يتحدث العربية بطلاقة دينق ألور و إدوارد لينو , فهل منعتهم العربية من إتخاذ مواقف سياسية متشددة تجاه الشمال ؟ هم مثل زيباري الكردي الذي يقود دبلوماسية العراق العربي في فعاليات العرب , و غيرهم كثير من البربر و التركمان و البجا و آخرين من غير الأصول العربية الذين صهرتهم الثقافة العربية في بوتقة اللغة لا يضيرهم بل ينفعهم أن يقرأوا للمتنبي و نزار و الطيب صالح و نجيب محفوظ و أحلام مستغانمي , و أن يقرأوا الرأي العام و الأهرام و السوداني و آخر لحظة بل و الإنتباهة .