بعضُ سحرِ القولِ المُبهرِ في مخلاةِ محجوب شرِيف الشعرية ! (1) حول لويس أراغون كتبت النَّاقدة الفرنسيَّة إلسا تريوليه، تقول: «عندما أتحدَّث عنه فإنما أتحدَّث عن الشُّعراء، لا عن ضحايا الخيالات، عن الشِّعر وليس عن الشَّئ الذي يلمع دون أن يكون ذهباً»! لم أجد أبلغ من هذه الكلمات في التعبير عن الاستقبال الحاشد، وغير المسبوق، للشَّاعر محجوب شريف، يوم عاد من رحلة استشفائه الأولى، معافى، إلى أرض الوطن، بحمد الله، وقد وقع ذلك عشيَّة يوم الشِّعر العالمي .. فيا لها من مصادفة! (2) لمحجوب عادات مختلفة في نظم القول الشِّعري حدَّ الفرادة. فهو لا يجلس، قط، إلى منضدة لكتابة قصيدته؛ وإذا فعل، في النادر من المرَّات، فذلك بعد أن تكون القصيدة قد علِقت معالِقها، واستدارت خلقاً سويَّاً. أما مراحل تكوُّنِها الأولى فغالباً ما تتخلق لديه ماشياً على قدميه، حتى لقد لقبه صديقنا عبد الله علي إبراهيم ب (الأمِّي) تحبُّباً! ومحجوب كثير المشي بقدر غزارة إنتاجه، في حوش البيت، في باحة السجن، أو حتى داخل زنزانة مغلقة، مثلما هو كثير المشي، أيضاً، أوان السَّراح المطلق، في أزقة أم درمان المتعرِّجة، وساحاتها المحتشدة بالعنفوان، وبالأخص سوقها الكبير الضاج بالحيويَّة. ولعلَّ هذا ما يفسِّر اكتناز قصائده بمختلف الحالات، والحكايات، والأخيلة، والصُّور الشَّعبيَّة، والصراعات الإنسانيَّة. (3) تكمن، خلف ذلك، كذلك، عجيبة أخرى من عاداته في التأليف، حيث لا يتحرَّى الهدوء، ولا ينتظر هبوط وحي أو الهام، بل يأخذ الشعر غِلاباً، فيذهب بنفسه، راجلاً، إلى حيث وحيه في ضجيج الحياة، وإلهامه في حركة الناس اليوميَّة، في عبارة يلتقطها من فم حمَّال بسيط، أو زوبعة تثور تحت أقدام مشاجرة مدرسيَّة، أو كلمة تقذف بها أمٌّ تتضجَّر من غلاء المعيشة، أو تقطيبة ترتسم، أوَّل النهار، على جبين أب مفصول للصالح العام، أو حكمة ترسلها عجوز تتعجَّب من تغيُّر الدنيا والأحوال، أو ترنيمة يمطها بائع متجوِّل ينادي على بضاعة كاسدة، أو معنى خبيء يطلُّ، بغتة، من عيني صبيَّة كابية الجمال قد لا تثير الاهتمام في محطة بص، أو ترميز طبقيٍّ جهير ينبعث، فجأة، بفحش مفضوح، بين ثرثرات فعلة يترصَّدون رزقهم بناصية بنك يتجهَّمهم في دغش الصبح! على أن مثل هذه التعبيرات لا تنتقل، بحَرْفيَّتها، إلى بنية القصيدة عند محجوب، وإنما يُعمِل فيها من طاقته الهائلة على مكابدة جدل اللغة، ومعمار القصيد، والمزج السَّلس بين العاميَّة والفصحى، واللعب البارع على جرس الحروف، ورنين الألفاظ، وتكثيف الجملة الشِّعريَّة، وتقطيعها إلى مجموعة جُمَل قصار، والاشتغال، بين هذا وذاك، على قوافٍ داخليَّة متتابعة، متنوِّعة، مع الإمساك الجيِّد، في كل الأحوال، بخيط القافية الأصليَّة الأساسي، والكثير الكثير، إلى ذلك، مِمَّا في مُخلاته من أدوات سحر القول الشِّعري، وحِيَلِه المُبهرة. (4) وثمَّة عجيبة ثالثة من عجائب عيار الشِّعر عنده، حيث يستمد إيقاعاته وأوزانه، مباشرة، من عمق إصغائه الوَلِه، الكلِف، الشغوف، لصميم هذه الحركة الموَّارة في عرصات المدينة، وهي، بطبيعتها، حركة ذات أوزان صريحة، وإيقاعات فاقعة. ولحرصه على ألا يُفلِت منها شيئاً، ولو للحظة، فإنه، طوال الوقت الذي تأخذه صناعة القصيدة، يلتمُّ عليها، بكل جوارحه، مراجعة، وجَلوَاً، وتنقيحاً. لذا، لا يندر أن يلحظ جلساؤه، سواء من أهله أو أصدقائه المقرَّبين أو رفاق سجنه، إكثاره، أوان ميلاد قصيدة جديدة لديه، من الاستغراق اللاإراديِّ في طقس تمتمات مُبهمة، كمن يتلو أوراداً يحرِّك بها شفتيه دون صوت، ويضبط إيقاعها ووزنها الخفيَّين بتلعيب يديه وقدميه ورأسه، بل أصابعه وعينيه أيضاً، ثمَّ ما يلبث أن يعود، حين ينتبه، بغتة، إلى مراقبتهم له، كاتمين ضحكاً معابثاً، لينفجر، هو ذاته، في طقس قهقهات طفوليَّة مجلجلة! (5) كِلا صراحة الوزن وفقوع الايقاع ، المستلهمين من صراحة وفقوع أوزان وإيقاعات الشارع العام، فضلاً، بالطبع، عن فرادة الاقتدار على التعبير غير المستهلك، في بساطة معقَّدة وسهولة ممتنعة، عن أشرف المضامين الضاربة في عمق الهمِّ الإنسانيِّ اليومي، هو ما يُكسِب قصيدة محجوب خاصِّيَّتها المنبريَّة، وقابليَّتها للأداء الجَّماعيِّ، وقدرتها، ليس على تحريك المشاعر، فحسب، بل والأجساد ذاتها! وما أيسر أن تلحظ ذلك إن أنت أوليت انتباهك لاستجابات الجُّمهور لأدائه من على المنصَّة، بحركة قدميه ويديه التي تكاد لا تهدأ، دَعْ انفعالات دواخله التي تستعصي على اللجم، فتنعكس، بتلقائيَّة وطلاقة، على نبرات صوته، وتوتُّرات وجهه وشفتيه! وأذكر، استطراداً، عندما احتفل اتحاد الكتَّاب، بداره في المقرن، ذات أمسية من أواخر العام 1988م، بتوقيع (اتفاق الميرغني قرنق)، كيف أحاطت بمحجوب مجموعات شتَّى من بنات وأبناء (الهامش)، بلكناتهم، وفصودهم، وأزيائهم، وحُليِّهم المائزة، يصدحون معه بأهزوجته البديعة (عشَّة كلمينا .. ميري ذكِّرينا)، وهم يشيعون، برقصاتهم الشَّعبيَّة النَّشطة حول نافورة الدار، جوَّاً من التَّفاؤل والمَرح الصخَّاب، في ذات اللحظة التي وصل فيها ركب الميرغني إلى الاحتفال، فوقف يتلقى تلك التحيَّة غير المعتادة، في مشهد مهيب، تمايحت فيه هامات الشجر، واهتزت له أركان المبنى، وسرت عدواه إلى الجَّماهير المحتشدة، فانطلقت تشارك، على سجيَّتها، في الأداء الشِّعريِّ البهيج، والرَّقص الإيقاعي الدَّاوي، بينما دموع البشرى تسحُّ من عيون لطالما سهَّدها التَّوق ل (السلام)، دون حتى أن ينتبه أحد إلى أنه لم تكن ثمَّة آلات موسيقيَّة، وأن الأهزوجة نفسها لم تكن ملحَّنة! (6) الحديث عن جماليَّات القصيدة عند محجوب، وعن عناصر شعريَّتها، ذو شجون، لولا أننا قصدنا أن تجئ هذه الكليمات محض تحيَّة نخصُّه بها في يوم الشِّعر العالمي، والتَّنويه بفضله الإبداعي في مقام الدعاء له بتمام الصحَّة والعافية.