«مثل هذه الرحلة مؤسفة .. تبعث على السخرية وغير ملائمة بشكل كبير» هكذا جاء أول تعليق أمريكي رسمي على طلب البشير تأشيرة دخول للولايات المتحدةالامريكية ليشهد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأضافت سفيرة الولاياتالمتحدة لدى الأممالمتحدة سامنتا باور: «أنه يجب أن يمثل أمام المحكمة الجنائية الدولية ليواجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب وابادة جماعية..». لكن (ماري هارف) المتحدثة باسم الخارجية الامريكية التي رفضت التعليق عما اذا كان البشير سيحصل على تأشيرة الدخول، إذ ينص القانون الأمريكي على سرية التعامل مع مثل هذه الطلبات، لم تخف هارف امتعاضها من الزيارة قائلة: «الأفضل أن يقدم نفسه الى المحكمة الجنائية الدولية والسفر الى لاهاي». لكن لوائح الاممالمتحدة تقضي بأن تمنح امريكا المسئولين المسافرين إلى برامجها إذناً بالدخول، ذلك أن إتفاقية مقر الأممالمتحدة المبرمة في (عام 1947) الذي اسس للمنظمة الدولية في نيويورك فان الولاياتالمتحدة بناء على ذلك يفترض بشكل عام ان تمنح تأشيرات دخول الى المسؤولين المسافرين الى الأممالمتحدة دون رسوم وفي اسرع وقت ممكن.. وفي إطار هذا الإتفاق وضعت أمريكا سياسة خاصة لإصدار تأشيرات دخول أعضاء الوفود بصرف النظر عن الخلافات بين الدول. ليس ثمة ما يشير حتى الآن إلى أن السلطات الأمريكية سوف تقوم برفض طلب البشير الحصول على تأشيرة لزيارة الأممالمتحدة لكن أمريكا سبق أن رفضت دخول مسئولين حكوميين من إيران المتهمة بالسعي لإمتلاك أسلحة نووية. الحكومة السودانية وعلى لسان خارجيتها أبدت استغرابها لتصريحات المسئولين الامريكيين في هذا الصدد وقال متحدث باسم الخارجية السودانية إنهم اتخذوا إجراءات تكفل حصول البشير على تأشيرة الدخول معلناً تمسك السودان بحقه في المشاركة مطالباً واشنطون الوفاء بواجباتها كدولة مقر «إصدارت التأشيرات اللازمة بأسرع ما يمكن..». لكن السؤال الأهم الذي ينطلق على خلفية هذه التداعيات: إلى أي مدى يمكن أن يؤثر رفض الولاياتالمتحدة طلب البشير لدخول أراضيها على العلاقات السودانية الأمريكية المتوترة بالأساس التي لا تكاد تستقر على حالة الهدوء ؟ السودان سبق أن وجد رئيسه في موقف بالغ الحساسية في نيويورك وفق تدابير خاصة وضعتها السلطات الأمريكية على حركته مقيدة لا تتجاوز نطاقاً محدود المدى لا يجاوز أقطاره إلى خارجه متعدياً مقار الأممالمتحدة إلى حيث الفضاء الأمريكي الشاسع، وكانت السلطات الأمريكية قد قدمت تبريراً لذلك الفعل ساعتئذٍ بأن البشير وفد إليها قادماً من كوبا حيث نال تأشيرة الدخول إلى أرضيها من هناك وإذ أن القنصلية الأمريكية في كوبا تضع قيوداً على القادمين من كوبا فقد سرى ذلك على البشير باعتبار المكان الذي نال فيه التأشيرة وليس لإعتبارات أخرى. فور عودته من أمريكا أصدر الرئيس البشير مدفوعاً برد الفعل قرارات قضت بتقييد حركة القائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم وتحديد نطاق تحركاته داخل مدى محسوب الاقطار لا يخرج عنه، لكن سرعان ما تجاوز الطرفان تلك الإجراءات وانطلق القائم بالأعمال الأمريكي يطوّف في البلاد شرقها وغربها بل إن المساحات اتسعت أمام التمثيل الديبلوماسي الأمريكي لمدى أمكن أفراد بعثتها مؤخراً من التطواف على الطرق الصوفية والصحف والعديد من المؤسسات السودانية. منذ بداية عقد التسعينيات دخلت العلاقة بين السودان والولاياتالمتحدةالأمريكية إلى نفق مظلم فقامت امريكا بإغلاق سفارتها في السودان وسحب بعثتها الدبلوماسية بالكامل من الخرطوم لتردف ذلك بإجراءات وضعت السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب، ومضت تفرض الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ العام (1990) عقوبات اقتصادية على السودان قامت بتشديدها في العام (1997) على إثر إصدار الرئيس بيل كلينتون امراً تنفيذياً قرر بموجبه فرض حظر تجاري على كامل الأراضي السودانية وتجميد الأصول الإجمالية لحكومة السودان ، الرئيس أوباما سار على سنة خلفه من الرؤساء الأمريكيين فظل يجدد ذلك الحظر عاماً من بعد عام حتى جاء آخر تجديد في شهر نوفمبر من العام (2012). منذئذٍ ظلت العلاقات بين البلدين تتردى لتصل إلى أسوأ لحظاتها حينما وجهت إدارة الرئيس كلينتون ضربة صاروخية لمصنع الشفاء بالخرطوم باعتباره مختبراً لإنتاج أسلحة كيمائية. لكن ثمة علاقة من نوع آخر ظلت تزدهر وتنمو في الخفاء بين البلدين كانت ساحتها ميدان الحرب على الإرهاب فتمكنت إدارة الرئيس جورج بوش الابن من صياغة شراكة وتعاون استخباري وثيق مع إجهزة الأمن الإنقاذية، لكن إدارة بوش ظلت في ذات الوقت توجه انتقادات شديدة لنظام الخرطوم في مجال حقوق الإنسان وهكذا احتفظت واشنطون بشريك فاعل في حربها على الإرهاب ، لكن المفارقة مضت بأن ذات الشريك السوداني ظل دائماً على قائمة الدول التي ترعى الإرهاب دون أن يتوقف السودان عن تبادل المعلومات الاستخبارية مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية. وفي التعليق على هذه العلاقة قال اللواء يحيى حسين بابكر للصحافي الأمريكي (كين سلفرستين: « إن المخابرات الأمريكية تعتبرنا أصدقاء.. السودان بلغ مستوى التطبيع الكامل في علاقته مع المخابرات المركزية الخارجية الأمريكية (CIA)» بينما أخبر رئيس المخابرات السابق (صلاح قوش) صحيفة التايمز: « لنا شراكة قوية مع ال CIA . و المعلومات التي وفرناها كانت ذات فائدة كبيرة للولايات المتحدة «. في مقابل هذه الخدمات التي ظلت خفيّة مستترة كانت الخرطوم تطالب برفع اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب وتطلب كذلك رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية عنها لكن برغم ذلك ظلت العلاقات الدبلوماسية ضعيفة. يقول روبرت أوكلي الدبلوماسي المتقاعد الذي عمل مساعداً للسيناتور دانفورث المبعوث الرئاسي الأمريكي للسودان آنذاك «إن التعاون الاستخباري كان له تأثيراً إيجابياً على مجمل العلاقات بين واشنطن و الخرطوم. لقد كانت علاقتنا مع وزارة خارجيتهم واهية والعلاقة الوحيدة المؤسسة بيننا كانت عبر القنوات الاستخباراتية لأن جماعتنا كانوا يعملون معهم مباشرةً..». ثمار ذلك التعاون وفق ما نقل مراسل صحيفة لوس أنجلوس (سلفرستين) حان قطافها لأول مرة حين التقى مساعد وزير الخارجية الأمريكية والتر كانستاينر في يوليو من العام (2001) في كينيا سراً بوزير خارجية السودان ما بدا أنها خطوة من قبل إدارة بوش لتحسين العلاقة مع الخرطوم ، وفي وقت لاحق أجرى كانستاينر ومدير قسم إفريقيا في ال CIA أجروا محادثات في لندن حضرها يحيى حسين بابكر حيث أنجزت صفقة ما. إذ امتنعت إدارة بوش و بعد أيام من ذلك عن التصويت في الأممالمتحدة مما أدى إلى تحرير السودان من العقوبات الدولية التي فرضت عليه بسبب الإدعاءات التي نسبت إليه دوراً في المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس المصري محمد حسني مبارك عام 1995. و تقريباً في نفس ذلك الوقت قدم السودان لأمريكا رزمة من الملفات الاستخباراية يبلغ سمكها بضعة بوصات، تحوي زبدة معلومات جمعت من أعضاء في تنظيم القاعدة و بعض الجماعات المتطرفة الأخرى إبان فترة إقامتهم في الخرطوم و في الفترة التي تلت ذلك. وهكذا بدأت الشراكة الاستخبارية تؤتي أكلها. وهكذا يجد د. عبد الرحمن خريس أن السلطات الأمريكية ملزمة بموجب الإتفاق مع الأممالمتحدة أن تمنح المسئولين الوافدين إلى مناشطها إذناً بالدخول لكن في ذات الوقت يحق للإدارة الأمريكية أن تحد من تحركات أولئك المسئولين داخل نطاق مهمتهم لا يتجاوزنها .. وبالسؤال عما إذا كانت الحكومة السودانية يمكن لها أن تستغل الخدمات التي تقدمها لامريكا في مجال الحرب على الإرهاب فتضغط بذلك في سبيل إيجاد علاقة متوازنة يقول خريس: «إن هذا ملف مختلف، وهو يتعلق بإستراتيجية طويلة المدى محكومة بإتفاقيات وتفاهمات لا يمكن لها ان تتأثر بمثل هذه الوقائع الطارئة..». إزاء هذا الوضع ربما لن تجد الحكومة السودانية من أدوات للضغط على الإدارة الأمريكية سوى أن تخرج المزيد من بيانات الاستغراب والاستنكار بينما تظل العلاقة في دائرة التوتر المزمن لا تبارحه إلى أفق أرحب من التعاون والتفاهم المثمر.