قبل شهرين خرج أمام مسجد الجريف الشيخ محمد عبد الكريم ( أستاذ بجامعة الخرطوم ) وعضو الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بفتوي تكفير الحزب الشيوعي مما حدا ببعض اعضاء ذلك الحزب فتح بلاغ ضده وما زالت القضية بطرف المحكمة. وقبل أيام طالعتنا صحيفة المشاهير الألكترونية بتصريح منسوب للشيخ علاء الدين الأمين الزاكي (استاذ بجامعة الخرطوم) وعضو الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة يطالب من خلاله الدولة « بتحويل أتحاد الفنانين لمسجد تقام فيه أوامر الله و ينهي فيه عن الفحشاء والمنكر أو الي أي شىء يعود ريعه علي المواطنين بالخير والرفاه». أنّ خطورة مثل هذه الفتاوي وتلك التصريحات تتمثل في أنّها تعطي المبّرر والمسّوق لأستخدام العنف وقتل الأرواح وأراقة الدم في بلد تمور بداخله وتتبلور تيارات واتجاهات دينية تكفيرية راديكالية تتفاعل مع ما يحدث في الساحة الأقليمية والدولية من حرب تدور رحاها بين التيار السلفي الجهادي و بعض الأنظمة العربية من جهة وبين نفس التيار والغرب بقيادة الولاياتالمتحدة الأميركية من جهة أخري. وقد عانت دول مجاورة للسودان ( مثل مصر والجزائر) في ثمانينات وتسعينات القرن الفائت من أثار مثل تلك المواجهات التي زعزعت الأستقرار و أزهقت الأرواح, وفتتت النسيج الاجتماعي, وعطلت التنمية. والباحث في شئون هذه التيارات صاحبة التوجهات العنيفة يجد أنّها قد نمت نموا مضطردا في العقدين الماضيين. وعلي الرغم من رهان الكثيرين علي أن أسلام أهل السودان - وسمته المميزة هي التسامح والعفو وعدم الجنوح للتشدد والعنف - يشكّل سياجا مانعا ضد هذه التوجهات الا ان هنالك ما يكفي من الأدّلة علي أنّ ذلك الرهان تنقصه الدقة. لقد حدث تحول كبير في تدّين أهل السودان خلال العقدين السابقين نتيجة للتغيرات السياسية والأقتصادية والأجتماعية التي شهدتها البلاد . فقد ساهمت الحرب في جنوب السودان والتي خاضتها الحكومة تحت رايات الجهاد في تجييش المجتمع بشعارات الدين , وكذلك أدي تبني سياسة التحرير الأقتصادي الي أزدياد التضخم و ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية، واتسعت الفوارق في الدخول بشكل كبير, ونتيجة لهذه التطورات الاقتصادية والاجتماعية وما ألحقته من أضرار بقطاعات كبيرة من الشعب السوداني أصاب الإحباط كثيراً من المواطنين الذين فقدوا الأمل فى المستقبل نتيجة لاستشراء البطالة والفقر والغلاء والتهميش مما دفعهم إلى تبني افكار دينية تخالف تدين أهل السودان الذي يتميّز بالتسامح ورفض التشدد و العنف. فجميعنا يذكر حادث مسجد الثورة الذي كان بطله « الخليفي» الذي هاجم المصلين الرّكع السجود وقتلهم دون رحمة , ومن بعده جاء حادث « عباس الباقر» الذي هاجم المصلّين بمسجد الجرّافة لتسيل دماءهم في بيت الله الذي يؤمن من يدخله من الخوف. وجميعنا تابع المواجهة العنيفة بين قوات الأمن والشرطة و بعض الشباب المتحصنين بمنزل بمنطقة السلمة جنوبالخرطوم حيث تبيّن بعد ذلك أنّها خلية تتبني أفكارا متطرفة وتم العثور علي أسلحة ومتفجرات داخل المنزل, وأخيرا وليس اخرا كان حادث أغتيال المواطن الأميركي «غرانفيل» وسائق سيّارته. وقد تختلف أسباب و دوافع هؤلاء الأفراد وتلك الجماعات في أستخدام العنف والقتل , فمنهم من يكفر المجتمع ككل ومنهم من يستهدف جماعات بعينها ومنهم من يستهدف أفرادا , ولكن يجمع بينهم خيطا مشتركا واحدا وهو التبرير الديني لأفعالهم والأعتقاد بأنهم ينفذون حكم الشرع والدين. وتتمثل خطورة الفتوي والتصريحات في أنّها تعطي ذلك التبرير والمسّوق الذي يبيح سفك الدماء. فعلي الرغم من تأكيد الشيخ محمد عبد الكريم في حواره مع الصحفي محمد كشان بصحيفة « الأحداث» علي أنّ « أستخدام العنف كوسيلة, ومحاولة التغيير عن طريق القوة, لا يجوز شرعا, لأنّ هذا يؤدي لأراقة الدماء, وأزهاق الأرواح البريئة», فقد فات عليه أنّ مجرّد صدور الفتوي يعني أنّ هناك من سيلتقطها ويعمل بها من تلقاء نفسه ظانا أنه يخدم قضية الدين ويطبق حكم الله. أنّ الشاب الذي قام بطعن الروائي المصري الراحل نجيب محفوظ بقصد أغتياله أعترف بأنه لم يقرأ حرفا واحدا مما كتبه نجيب محفوظ, ولكنه سمع قول الدكتور عمر عبد الرحمن مفتي الجماعات الاسلامية بأنّه « من ناحية الحكم الأسلامي فسلمان رشدي الكاتب الهندي صاحب آيات شيطانية ومثله نجيب محفوظ مؤلف أولاد حارتنا مرتدان وكل مرتد وكل من يتكلم عن الإسلام بسوء فلابد أن يقتل ولو كنا قتلنا نجيب محفوظ ما كان قد ظهر سلمان رشدي». أما قاتل الدكتور فرج فودة فقد كان سمّاكا أميّا لا يقرأ ولا يكتب, ولكنه قال في المحكمة أنه قتله لأنه سمع بفتوى جبهة علماء الأزهر التي أتهمته بالردة وأوجبت قتله. قد أصدر الدكتور عمر عبد الرحمن فتوى أغتيال الرئيس المصري الراحل السادات بأعتباره مرتدا عن الدين, وقد نفذ خالد الأسلامبولي ورفاقه عملية الأغتيال بناءا علي تلك الفتوي , ولكن الدكتور عمر قال أمام نيابة أمن الدولة العليا أثناء التحقيقات فى قضية قتل السادات ومحاولة قلب نظام الحكم أن فتواه فردية وأنه غير مسئول عن إيمان قتلة السادات بها. لقد قال الشيخ محمد عبد الكريم في حواره سابق الذكر أنّ « التكفير لا ينبغي أن يُطلق، إلا من أهل العلم والمتخصصين،ولا يجوز للشباب، أن يخوضوا، في قضية تكفير الأفراد، ولا الجماعات، وأهل العلم والدراية فقط، هم من لهم الحق، في تكفير الأفراد، وإصدار الفتاوى». أنّ عبارة « أهل العلم والمتخصصين» هي عبارة ملتبسة وغامضة, فأهل العلم والمتخصصون هؤلاء تتباين أراءهم وتختلف بأختلاف فهمهم للدين وبأختلاف أنتماءاهم السياسية والفكرية, وهنا تكمن خطورة الفتاوي و ما يترتب عليها. أنّ ما تراه « الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة « التي ينتمي اليها الشيخ عبد الكريم كفرا يستوجب القتل, قد لا تراه « هيئة علماء السودان « كذلك. وما أفتي به عمر محمود المعروف «بأبي قتادة» بجواز ذبح النساء والأطفال في فتواه « عظمة الشان في قتل الذرية والنسوان» أبان مأساة الجزائر, يخالف ما أفتت به جبهة الأنقاذ الأسلامية الجزائرية. أنّ ما نسمعه ونراه من تضارب في فتاوي تخص أمورا عامة أخرى تعضّد ما ذهبنا اليه من أرتباط الفتوي بالمواقف السياسية والفكرية. قد أفتت هيئة علماء السودان في ديسمبر الماضي بعدم جواز خروج المسلمين في التظاهرات ضد الحكومة وهو الأمر الذي أستنكره ورفضه الدكتور حسن الترابي. وقد تابع الجميع كذلك الفتوى الصادرة من مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر والداعمة لقرار الحكومة المصرية القاضي ببناء جدار في الحدود مع غزة, وهى الفتوي التي قابلتها فتوي أخري من الشيخ يوسف القرضاوي تحرّم بناء الجدار. وفي مثل حالة الأحتقان التي يعيشها المجتمع السودانى يمكن أن تؤدي التصريحات والفتاوي التي يدلي بها شيوخ الدين الي أشاعة العنف والقتل وسفك الدماء فتديّن اهل السودان لا يختلف عن تديّن المصريين ومع ذلك لم تسلم مصر من موجات العنف التي أجتاحتها في الماضي القريب, وأنّ تصريحا بتحويل دار الفنانين الي مسجد قد يجد اذان صاغية من فئة تعمل تحت الارض وتعتبر ذلك « أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر» فيؤدي ذلك الي ما لا تحمد عقباه. وأخيرا نقول أنّ فتاوى التكفير في بلد أصبح فيه حمل السكين والطعن بها « أسهل من القاء تحية « , تصبح من الكبائر التى لا يغفرها الدين ولا الوطن.