لئن كان بناء السد في حد ذاته أسطورة النصر في ملحمة الستينيات من القرن الماضي، على قوى الرجعية في الغرب وأمريكا بل وبعض المؤسسات الدولية، وأصبح ذلك تاريخاً ليس لمصر وحدها بل للبلاد النامية وعلى رأسها السودان، فإن أبناء السد مصره وسودانه يتطلعون اليوم الى معجزة أخرى وتحديات تناسب هذا القرن الجديد في علم المياه المتطور تكنولوجياً، وفي تطورات السياسة الدولية المعاصرة، أطرح بعض أفكارها في هذه التأملات وآمل أن تكون موضوع حوار في ليالي سياسية للانتخابات التي نمارسها وهي انتخابات مصير لنكون أو لا نكون.. لن نتحدث إذاً عن مشروع هو معجرة من معجزات القرن الماضي، وتحقيقه بلا شك سيظل فخر أبناء وادي النيل ولكن يجب ألا ننسى أن مفتاح كل هذا كان توحيد كلمة مصر والسودان التي نريد أن نسمع صوتها دائماً في كل معركة.. إن هذا السد هو الذي دفعنا ويدفعنا الى إنشاء سدود أخرى الروصيرص ومروي وعطبرة وستيت وغيرها في الشمال والجنوب بإذن الله. فكلما انتقلت مصر بهذا السد الى عهد الطاقة الجديد صديق البيئة وضمت الى أفدنتها الخصبة أرضاً جديدة وسوت ملاحة النهر، فإن السودان استفاد من تفادي الجفاف وتحقيق نصيبه أو الجزء الأكبر من المياه. ولكن ليسمح لي أولاً أن أحيي الى جانب القوى البشرية القادرة بمعونة الاتحاد السوفيتي القديم، أن أحيي القوى البشرية التي فقدت أرضها وهو أعز فقد وذهبت مضحية الى أراضٍ أخرى هذه التضحية من أجل الوطن كله وليس أقلها ما تركت من أثر في بناء الخزانات والسدود تلك التي لا تسبب ضرراً ولا هجرة إلاّ في أقل الحدود. إن آثار السد العالي يجب أن تمتد الى حمايتنا من تغير المناخ وما يرويه العلماء عنها وخصوصاً في مصر ولكن وأيضاً لوادي النيل كله إذ أن نقصاً قليلاً من مياه «البحيرة» يقلل من التبخر وتستفيد منه كل أجزاء الوادي إننا نتطلع الى أن يعم التخزين القرني كل الوادي وتستفيد منه دوله وحوضه وربما تسهم في حل هذه المشاكل المصطنعة بين المنبع والمصب والسودان معبر ومنبع ومصب وهنا تبرز أهميته. وحدة تكاملية خلاقة لئن كان السد العالي أسطورة فليس هو التاريخ فمنذ الفراعنة وثم «الحسن بن الهيثم» العالم العربي الشهير صاحب أول فكرة لبناء سد على النيل في هذه المنطقة وتكررت المحاولات حتى السد القديم عند أسوان. هذه الوحدة التكاملية الخلاقة بدت أيضاً في أن أول سفير للسودان وفرنسا أمام اليونسكو ألقى كلمته وشرفني أن أكون عندما بدأت اليونسكو حملتها لإنقاذ معبد «أبوسمبل»، وهذا العمل في حد ذاته كان معجزة ولما احتجت صحف فرنسا على «مالرو» وزير ثقافتها بأنه ينقذ «الحجر» ويغرق البشر، رد بكلمة المسيح المأثورة ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان! إن قيام منطقة تكامل في الجزء الأعلى من وادي النيل بين شماله وجنوبه هي أساس قيام مناطق أخرى على مجراه الطويل في رحلته التي تتجاوز ال (0056) كيلومتر وهي تعطي المثل للتكامل الصناعي والزراعي وفي هذه المنطقة يحدثنا التاريخ قامت صناعات وكانت الصحراء مخضرة ومكاناً للغابات وللحيوانات البرية. إن هذه المنطقة ستبتلع وتسحق الى الأبد هذا الخلاف المصطنع حول سيادة «حلايب» والذي يثار بين وقت وآخر وخصوصاًَ في أوقات حساسة كما يثار وقت الانتخابات مثلاً في مصر أو السودان. هذه المنطقة من التكامل يتاح لها الآن وفي المستقبل ما لم يكن متاحاً في الماضي وها هي الطرق البرية توشك أن تتصل سواء على شاطئ النيل أو ساحل البحر الأحمر، وهذا العناق الأخوي سيقوى بلا شك عندما تتم خطوط السكك الحديدية التي تدرس الآن في الخرطوم رابطة «دكار» وبورتسودان، ورابطة المحيط الأطلنطي والبحر الأحمر ورابطة إفريقيا وآسيا في طريق حديدي جديد. هذه المنطقة ستدفع فرص الاستثمار في كل من مصر والسودان ونحن نشجع اهتمام إخواننا في مصر بتنمية صغيرها المجاور مباشرة لمنطقة حلفا وسكوت والمحس ونقترح كما سمت محافظة أسوان عيدها القومي على إنشاء السد العالي أن تسمي حلفا بالمثل عيدها القومي. إن منطقة التكامل هذه ستوسع من فرص الطاقة الجديدة والمتجددة. وهناك إمكانيات سياحية تعززها مناطق الآثار المشتركة، وكما أنقذت آثار المنطقة العربية في «أبوسمبل » وغيرها كذلك نرجو أن تمتد يد العون الى آثار السودان في منطقة كرمة وما جاورها. هذه البحيرة العظيمة التي هي أكبر بحيرة صناعية في العالم جزء كبير منها حوالى (051) كيلومتراً يقع في السودان ويسمى بحيرة النوبا والجزء الأكبر بحيرة ناصر يقع في مصر ليكمل (005) كيلومتر، وهذا مجال لتشجيع صناعة أسماك مشتركة بين البلدين وكذلك مجال لسياحة دولية وخصوصاً للبلاد التي تعاني الآن من الجليد وهذا المتنفس الكبير من الفضاء السياحي يمكن أن تصل آثاره مصر والسودان بمناطق السياحة في إفريقيا أيضاً وخصوصاً شرقها في كينيا ويسرنا والسيد كمال علي وزير الري والموارد المائية عضواً في مجلس المحافظين واللجنة التنفيذية للمجلس العربي للمياه وقد انضم كعضو منتخب البروفيسور عابدين صالح، هذه القوى السودانية الناعمة تدعم الخبرة الدولية لمصلحة التكامل الخلاق. منطقة سلام في النيل احتفلت دول حوض النيل بمرور عشرة أعوام على مبادرة دول حوض النيل، وكان الاحتفال في دولة تنزانيا إحدى دول الحوض واستمر لأيام وقد مثل السودان وفد كبير ومهم على رأسه وزير الري والموارد المائية وصادف هذا الاحتفال نهاية مشاريع الرؤية المشتركة التي يتولى السودان فيهما جزءاً مهماً متصلاً بالبيئة.. وأيضاً تعتبر تنزانيا من دول المنبع إذ كما يعرف القراء تحتل أكبر الأجزاء الإقليمية من المشاريع من بحيرة فكتوريا قبل كينيا ويوغندا، ويعرف القراء أن دولة تنزانيا من دول المنبع التي أثارت الخلاف في كنشاسا عاصمة الكنغو وأخذ هذا النزاع الى الإسكندرية حيث تقرر أن يتم حسمه في ستة أشهر مضى منها شهران وها هو الوقت يمر وما زال السودان يلعب الدور المعلى في محاولة الوصول الى حل يرضي كل أطراف الدول المشاطئة ورغم أن السودان هو أيضاً من دول المنابع إلا أنه من دول العبور ويعتبر من دول المصب ولعب دوراً مهماً في تصفية نقاط الاختلاف. المهم أننا نرجو بمناسبة نجاح مشروع السد العالي وهو بلا شك من المشاريع التي تدعو للسلام وتستفيد منه أكثر من دولة، نرجو أن نصل الى المبدأ العالمي الذي دعت إليه اتفاقية هلسنكي وكرست له اتفاقية الأممالمتحدة لسنة 7991م للممرات المائية الكثيرمن موادها وهو الاستخدام العادل والأمثل لكل الدول المشاطئة وأيضاً تحذير الاستخدام المضر أو الذي يحتمل الإضرار بالدول المشاطئة الأخرى. لقد آن الأوان أن نكثر من هذه المشاريع التي تستفيد منها كل دول الحوض ولا شك أن مشروع السد العالي هو مشروع تخزين «قرني» لذلك كانت حمايته لمصر والسودان من الجفاف وأيضاً من الفيضانات الكبيرة وتكرار مثل هذه المشاريع مما يقوي من نجاح المبادرة ويحيل النزاع الى سلام بين دول الوادي وكذلك يدفع للتعاون لا للتنافس والخلاف. ونرجو أن نحتفي في عيد السد العالي القادم بزوال الخلاف بين دول المنابع ودول المصبات في النيل فحلمنا الثاني أن يلعب السد العالي دور التعاون ليس بين مصر والسودان فحسب ولكن بين دول النيل جميعها. القوى الناعمة إن منطقة التكامل الخلاق التي تحدثنا عنها سوف لا تقتصر رسالتها على إشاعة السلام بين دول حوض النيل فحسب ولكنها وهي منطقة وسط في عالم تحيط به النزاعات من كل جانب نأمل أن تلعب هذه المنطقة دور الوسيط للسلام وإذا كانت فرنسا الدولة الكبرى احتاجت الى مثل للسلام فاقترحت منطقة وسط بين أطراف البحر الأبيض فما أحرانا أن نقدم هذه المنطقة كمنطقة سلام لإفريقيا ولغيرها من دول العالم راجين أن نبدأ بأنفسنا وتحقيق السلام الكامل في السودان ونحن نحتفي بعيد اتفاقية السلام «نيفاشا» أن تعم هذه الروح التي تعتمد على القوى الناعمة.. الحوار الحوار الحوار أكثر من اعتمادها على القوى الأخرى وأن تلعب هذه المنطقة دوراً لتحقيق السلام على صعيد العالم المضطرب كما تلعب نفس الدور بين دول حوض النيل.