كانت كلتوم منهمكة في جر طرقة الكسرة على دوكتها وهي تجلس على البنبر، بينما كانت حلة الملاح التي وضعتها على المنقد بالقرب منها تئز أزيزا شديدا ثم تجهش بالغليان لتنطلق منها روائح كشنة البصل مع اللحم، انحنت لتغذي نار الدوكة بعودي حطب وعندما رفعت رأسها فوجئت برؤية صغيرتها سلمى تقف بالقرب منها ويبدو على سيماها الرقيقة الإعياء، سألتها في فزع: (سجمي يابت .. خلعتيني .. مالك ماشة بلا حِس زي الضل)؟ ثم واصلت عندما رأت آثار الشحوب عليها: (مالكم فكوكم من المدرسة بدري الليلة.. أوعى تكوني عيانة)؟ أجابت سلمى في وهن: عندي حمى شديدة وراسي واجعني يمه.. والأستاذة قالت لي أمشي البيت. قالت كلتوم في إشفاق: (سمح أدخلي أرقدي في البرندا دابن أقضى من عواستي وأجيك). أسرعت كلتوم بجر آخر الطرقات وأطفأت النار بعد أن انقبض قلبها ولفتها الكآبة، فقد كانت منذ ليلة البارحة تعاني من ألم في جسدها ورفة غريبة أسفل عينيها حتى تكاد تقتلعها، دخلت للبرندا لتطمئن على سلمى صغيرتها الحبيبة والأثيرة ذات الثماني سنوات والتي أنجبتها في آخر المطاف بعد عشرة من الصبية، فقد تزوجت صغيرة وكانت بحق الودود الولود فظلت تهدي لزوجها في كل عام صبيا وهي تنتظر في صبر أن يمن الله عليها بالبت (البتسوي الجبنة وتقش البيت) حتى وهبها الله سلمى. كانت سلمى كالزهرة الرقيقة، نحيفة دقيقة القوام حتى تخال أنك يمكن أن تكسر ساعدها بمجرد الإمساك به بقوة، هادئة الطباع تنثر الحب والفرح بضحكاتها وودها الذي تمنحه للجميع، سماها إخوتها (الكديسة) لأنها كانت تحب أن (تتملس) وتلتصق في أحضان والديها وأخوانها وحتى الجارات والقريبات فأحبها الجميع بدون استثناء. وجدت كلتوم صغيرتها نائمة ولكن عندما وضعت يدها على جبينها لسعتها سخانة الحمى فقد كان جبينها ملتهبا، نادتها فلم تجب بغير أنات خافتة، أصابها الهلع فأسرعت بإطفاء النار عن (حلة الملاح) ولبست ثوبها وحملت سلمى على كتفها، حثت خطاها إلي محطة الحافلات وبعد انتظار خالته دهرا جاءت الحافلة فركبتها متوجهة الى المستشفى العام، جلست على المقعد وهي تحمل سلمى في حضنها وتتحسسها كل فينة وأخرى، أحست بأن الحمى قد نزلت لتحل محلها نوع من البرودة الغريبة وهدأت أنات سلمى فطمأنت قلبها بأنها حمى الملاريا وقد انحسرت، منعها حدسها من التفكير فظلت متشبثة بصغيرتها وهي تضمها لحضنها حتى وصلت إلى المستشفى، سجلت اسم المريضة وجلست تنتظر دورها وهي ساهمة وقد تحول قلبها لسكين حاد يحز أحشاءها حزا مع كل خفقة من خفقاته الوجلة. دخلت على الطبيب ومددت صغيرتها الهامدة الحركة على طاولة الكشف ثم جلست في صمت، أدرك الطبيب ما يحدث فأسرع بالسماعة الى الصغيرة وبعد أن انهمك في جس نبضها وتحسس صدرها التفت الى كلتوم قائلا: دي بتك يا خالة ؟ أجابت بهزة بسيطة من رأسها فسألها مرة أخرى: أبوها وين؟ أجابت زاهلة: أبوها سواق تكسي ومرق من الصباح لي شغلو قال الطبيب: طيب الجا معاك منو؟ - جيت براي .. أولادي في المدارس وأبوهم بيكون هسي في الموقف. ظلت تجيب على أسئلة الطبيب دون أن تجرؤ على سؤاله عن سببها، قال الطبيب في هدوء: طيب يا خالة إنتي إنسانة مؤمنة وصاحب الأمانة شال أمانتو.. البركة فيك وشدي حيلك. نظرت للطبيب في حيرة وقد ذاب فؤادها وسال ليسقط في بطنها الذي انقبض بشدة، أمسكت ببطنها كأنها تحاول أن تمنع سقوط قلبها إلى الأرض. قال الطبيب: كدي أمشي بره شوفي أهل المروءة عشان يشيلوا ليك الجثمان. رنت كلمة جثمان في عقلها وجوفها الفارغ، فخرجت تجري وهي لا تلوي على شي، عند بوابة المستشفى رأتها إحدى قريباتها التي حضرت لعوادة مريض .. نادتها في فزع عندما رأتها تجري ذاهلة وحاسرة الرأس: يا كلتوم.. يا كلتوم.. (هيا أخواني حصلوا لي المرة القاعدة تجري ديك)...