«هل هؤلاء الرجال جبهة؟».. عبارة ذائعة الصيت قالها على أيام الانقاذ الأولى، العميد والكاتب الصحافي محمود قلندر رئيس تحرير صحيفة «القوات المسلحة» وقتها. طرب لها معارضو الإنقاذ الأشداء حينها كثيراً رغم انها جاءت في فاتحة مقال توصلت نهايته إلى أنهم ليسوا بجبهة، ولم يطربوا لأخرى بعدها غير العبارة الأشهر للأديب الراحل الطيب صالح: « من أين جاء هؤلاء» عندما رأى من وجوه قادة الإنقاذ، وأفعالهم، ما اضطره لذلك السؤال الاستنكارى. --- والناظر هذه الأيام إلى الأحاديث الغاضبة لقادة أحزاب المعارضة خاصة المقاطعة للانتخابات، بشأن كل من المبعوث الأمريكى للسودان سكوت غرايشن والرئيس الأمريكى السابق جيمى كارتر، وإتهامهما بالتواطؤ، بل الإنحياز المكشوف للمؤتمر الوطنى. سيجد ما يحمله على التساؤل ببراءة عما إذا كان «هذان الرجلان جبهة» - من الجبهة الاسلامية- حتى يقولوا فى الانتخابات ما يشجى الوطنى، ويغيظ خصومه على هذا النحو؟. أم ينطلقون من أرضية مركوزة مهنيتها لدرجة تجعلهم لا يأبهون كثيراً بآراء السياسيين فيهم معارضون كانوا أو حكاماً، مدحاً كانت أو قدحاً؟. فأحزاب المعارضة، إعتادت قبل هذه الانتخابات على الأقل، أن تهب معظم رياح التصريحات الغربية فى أشرعتها وتجئ مناصرة ومتماهية إلى حدٍ كبير مع مواقفها على حساب الحكومة. ولم تعتد أن تُصفع - كما الحكومة- بتصريحات من هم فى عداد حلفائها، الأمر الذى شكل مفاجأة غير محتملة لها فى الأيام الفائتة فصار بعض قادة القوى السياسية المعارضة يتحدثون هذه الأيام بتلميح واضح عن «تسطيح» وتدجين وإنحياز كل من سكوت غرايشن وجيمى كارتر، وربما شرائهما من قِبل المؤتمر الوطنى. وكما لو كان المتحدث، أحد قيادات المؤتمر الوطنى ممن إكتسبوا طوال سنى عمرهم العشرين دربة فى شجب وإدانة واستنكار التدخل الأمريكى، وجه فاروق أبو عيسى سكرتير قوى جوبا هجوماً غير معتاد على الإدارة الأمريكية بعد أن أدارت ظهرها لمطالباتهم المتكررة بتأجيل الانتخابات وأغلقت آذانها عن أحاديث التزوير. ووصف فى المؤتمر الصحفى الذى عُقد بدار الحزب الشيوعى ظهيرة اليوم الثانى للاقتراع، تدخل واشنطن فى الشؤون الداخلية، بالسافر. وذلك بعد أيام قليلة من فشل آخر محاولات قوى جوبا لاقناع الإدارة الأمريكية بالتدخل لتأجيل الانتخابات أو ربما الحديث عن تزويرها. لكن تصريحات كارتر لم تكن كلها فى هذا الإتجاه الذى تبلور مؤخراً، فقد رشح من مركزه قبل نحو أسبوعين تقريباً حديثه عن وجود صعوبات وإشكالات فنية بعدد من الولايات بصورة تستدعى تأجيل الانتخابات. وهو الحديث الذى ابتسمت له المعارضة لبعض الوقت، وصب عليه مرشح المؤتمر الوطنى للرئاسة عمر البشير غضبة كانت مماثلة لغضبة أبو عيسى من غرايشن، عندما هدد بطرد وقطع أصبع كل من يتدخل فى الشأن الداخلى من المراقبين، ويتحدث عن تأجيل الانتخابات قبل أن يتجاوز البشير وكارتر فيما بعد تلك التصريحات، بعد تعادل سلبى - تصريح لكل- مضت على إثره الأمور فى إتجاه لا يرضى المعارضة. وفى حديث مع (الرأي العام)، وجه العميد عبد العزيز خالد مرشح التحالف لرئاسة الجمهورية إنتقادت لاذعة لموقفى غرايشن وكارتر، وبدا على ثقة من أن تقرير كارتر النهائى ،سيكون مغايراً لما يرشح منه هذه الأيام من تصريحات غير مهنية على حد قوله. وإن ارتفعت وتيرة أغلب الانتقادات المصوبة لكارتر من المعارضة مع بدء عملية الاقتراع، فقد نال غرايشن نصيبه من انتقادها مسبقاً. تحديداً، عندما أصر بحماسٍ على قيام الانتخابات فى موعدها بإعتبار أن الملعب قد تهيأ بما يُمكِن من إقامة انتخابات بدرجة معقولة من النزاهة. وقتها، شبه الكاتب الصحافى جمال علي حسن الجنرال سكوت غرايشن بأمين التعبئة السياسية بالمؤتمر الوطنى، وأشار إلى أن الفرق بينها فى خدمة الحزب يقتصر فقط على حيوية غرايشن ونشاطه الزائد. أما الوطنى، فقد قال رئىسه ومرشحه للرئاسة عمر البشير في سياق تعليقه على موقف غرايشن الرافض لتأجيل الانتخابات: «ان المعارضة قالت امريكا اصبحت مؤتمر وطني والحمد لله». وقبل ذلك، قال مرشح رئاسة الجمهورية المقاطع مبارك الفاضل فى اتصال هاتفى أجريته معه إن كارتر لا يراقب من فراغ وإنما يراقب وفقاً إلى المسطرة التى حددتها الأممالمتحدة والإتحاد الأفريقى لماهية الانتخابات النزيهة. وفى ذات الاتصال، لكن، وفى سياق غير متصل قال الفاضل: «غرايشن فقد التأثير وحرق كل أوراقه منذ البداية فأصبح بلا خطة وبلا تأثير» وهو القول الذى كان بحاجة الى اختباره مع الفاضل مجدداً لكن اتصالاتى بالرجل، انتهت إلى اتصالات لم يرد عليها. ورغم أن مركز كارتر عرف منذ أن أنشأه وزوجته روزالين فى العام 1982م، كمنظمة غير حكومية نشطة فى تعزيز الديمقراطية والتنمية الاجتماعية وحقوق الإنسان والعمل على إيجاد حلول سلمية للصراعات الدولية، إلاَّ أن الكثير من المراقبين لا يرون مسافة فاصلة بينه والإدارة الأمريكية، ويشيرون إلى أن أغلب تقاريره عن الانتخابات التى راقبها فى العديد من بلدان أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية كانت تمضى بموازاة توجهات بلاده. وإذا قرأنا أحاديث هؤلاء المراقبين مع الحديث عن انحياز (كارتر/ غرايشن) إلى الوطنى على حساب المعارضة، فإن ذلك لا يخرج على الأرجح من هذه القراءات: 1/ أن تكون واشنطن قد نظرت بعيداً وقرأت الساحة السياسية جيداً وتأكدت من فوز المؤتمر الوطنى بالانتخابات سواء أكانت حرة ونزيهة أو لم تكن كذلك، حسبما جاء في رأي وولسار خبير الانتخابات الأمريكى فى مركز «هيرتدج» للشرق الأوسط، فقررت على ضوء ذلك التعامل مع المؤتمر الوطنى بوصفه أفضل الخيارات. 2/ ربما رأت واشنطن أن أحزاب المعارضة ليست قوى المرحلة، ولا يمكن الرهان عليها كثيراً بسبب خلافاتها التى لم تمكنها من الاتفاق حتى على مرشح واحد، وشتاتها الذى لن يحقق أهدافها فى السودان- أهداف واشنطن- فى مقابل حزب المؤتمر الوطنى الذى له قدرة على ضبط أموره الداخلية، وبالتالى تنفيذ ما يتم الإتفاق عليه مع واشنطن خاصة بعد تجربة الحكومة الأمنية مع الإدارة الأمريكية فى مجال مكافحة الأرهاب. 3/ من الممكن أن يكون هذا الدفع الأمريكى للانتخابات لإزالة العوائق فى طريق الاستفتاء وتمهيد الطريق أمام انفصال الجنوب وتحميل مسؤولية ذلك إلى المؤتمر الوطنى، ثم ترتب واشنطن علاقاتها مع القوى السياسية بالبلاد بصورة مختلفة بعد إنتهاء مرحلة التكتيك فى العلاقات. 4/ هناك إحتمال آخر، وهو أن كارتر استدرج الوطنى بتصريحاته التى لا تسر المعارضة، ليكتسب مصداقية تجعل رفض الوطنى وتشكيكه فى تقريرالمراقبة النهائى إذا كان بالتزوير غير أخلاقى بعد أن ابتسم لتصريحاته فى البداية، فهو فى هذه الحالة سيكون ك «نور المالكى الذى إمتدح مفوضية الانتخابات العراقية ودافع عن مهنيتها قبل إعلان النتائج وانتقدها بشدة بعدها بعد أن تفاجأ بتقدم إياد علاوى عليه». ويزيد من هذا الاحتمال الأخير، جعل كارتر للباب مؤارباً لقول ما يصعب التكهن به عندما قال قبل نهاية عملية الاقتراع « لا يوجد حسب علمى دليل على حدوث عمليات تزوير، ومن السابق لأوانه الحكم الآن على نزاهة العملية الانتخابية برمتها» وأضاف إلى ذلك أمس في مؤتمره الصحفي بأن الانتخابات غير مطابقة للمعايير الدولية ولكن هذا ليس تقييماً نهائياً لها!!. ومهما يكن من أمر، فإن الإجابة على التساؤل.. هل هؤلاء الرجال جبهة؟ هى قطعاً لا. كما أنهم ليسوا معارضة بالضرورة. فهم قبل انتخابات السودان وبعدها، أمريكيون يتخذون من المواقف ما يخدم فقط استراتيجياتهم ومصالحهم فى السودان سواء وجدوها فى الجبهة الاسلامية، أو الجبهة الديمقراطية.