وتمضي الأحداث هناك الى التعقيد الخطير.. ف «كُرة اللهب» التي تدحرجت الى أقصى غرب تشاد ارتدت بقوة مضاعفة في الاتجاه المضاد..! استراتيجية إدارة الأحداث أدارتها فرنسا التي تدرك قصر نفس المعارضة وقواتها المقاتلة التي لا تستطيع الصمود في انجمينا لأكثر من «24» ساعة..! في خلال «24» ساعة يجب احتلال القصر الرئاسي وإزاحة ديبي من هناك..! ولكن هناك عاملاً آخر لم تأخذه القوات المعارضة في الحسبان.. مطار انجمينا الذي هو كذلك قاعدة جوية فرنسية. وهنا بدأت فرنسا في مساومة ديبي.. فالعرض الذي عرضته عليه بإخراجه من القصر الى خارج البلاد هو جزء من هذه المساومة. أي أن فرنسا ستقوم بتحقيق حلم قوات المعارضة التي زحفت مئات الكيلومترات من أقصى شرق تشاد الى أقصى غربها دون ان تتحرك شبراً واحداً. أي أن فرنسا تبعث رسالة لكل القوى المعارضة في تشاد بأن الأمر في تشاد يبدأ بفرنسا وينتهي عندها..!! وبعد أن اجتذبت كل قوات المعارضة الى داخل أنجمينا بدأت المساومة.. إما نحن «فرنسا» وإما المعارضة.. فأيهما تختار..؟! والحراسة على القصر الرئاسي وما جاوره كانت فرنسية «100%»..! والسعودية التي كان ديبي في حج العام الماضي يستقطبها ليقلل من نفوذ فرنسا عليه سقطت على منزل سفيرها دانة قتلت زوجة أحد الدبلوماسيين وابنته..! وهذه أيضاً رسالة مزدوجة ولكنها غير مباشرة للسعودية تقول فيها فرنسا للسعودية «نحن هنا».. ومباشرة للسعودية هذه المرة أن قوات المعارضة تستهدف فيما تستهدف السعودية التي استقطبها ديبي لصالحه..! وسط هذه المتاهات العسكرية والاستخباراتية وجدت قوات المعارضة نفسها تائهة حتى أنجمينا التي تعرفها عن ظهر قلب انقلبت هي الأخرى متاهة..! عسكرياً انتصرت المعارضة على ديبي، وتاكتيكياً انتصرت فرنسا على الجميع.! فالقوات المعارضة لم تجد في انجمينا جيشاً لتقاتله سوى الفرنسي..! وفرنسا قوة في غرب افريقيا لا يجرؤ أي جيش من المتمردين على منازلتها ولا يرغب في مواجهتها..! ولفرنسا تجارب عديدة في غرب افريقيا الفرانكفونية، فأي إنقلاب يحدث في غرب افريقيا لا ترغب فيه تقوم بقمعه كما حدث في السنغال على ما أظن في القرن الماضي حيث كان مطار العاصمة مغلقاً بعد انقلاب مضاد، وباتفاق مع السادات وفرنسا تم طلب من السلطات فتح المطار لطائرة مصرية تحمل مواداً غذائىة وفعلاً تم فتح المطار ودخلت الطائرة المصرية وتبعتها طائرات عسكرية فرنسية أعادت الأمور الى سابق عهدها..! وفي حالة تشاد لم تكن فرنسا تحتاج فتح المطار فهو تحت سيطرتها، لذا كانت لديها كل أوراق الضغط على ديبي..! ولكن فرنسا لم تكتف بما لديها من أوراق اللعبة فأرادت ان تصبغ على ما لديها صفة الشرعية الدولية..! وكان مجلس الأمن جاهزاً.. فأصدر القرار بإدانة ما تم وتأييد النظام الشرعي الذي يرأسه ديبي...! رغم ان ديبي جاء الى الحكم بذات الطريقة.. فأية شرعية يقصدها مجلس الأمن؟!!. وأي أعضاء مجلس الأمن يمكنه الدخول لحماية ديبي..؟!! هل هي الصين..؟ لن تتدخل الصين لحماية ديبي الذي اعترف بتايوان..! أم هي انجلترا التي تعيش بؤساً عسكرياً لما عانته في العراق وأفغانستان..؟!! أم يا ترى أمريكا التي لن يتجرأ بوش وهو في آخر أيامه على ارسال قوات لافريقيا بعد تورطه في العراق وأفغانستان، ويفقد الحزب الجمهوري ما بقى له من تأييد داخل أمريكا..! أم يا ترى روسيا الفيدرالية؟.. وهي دولة ليست لها أطماع خارجية بل على العكس تعارض كل أنواع الهيمنة الاستعمارية السائدة على عالم اليوم...! فروسيا لم تحارب على أرض غير أرضها ولم تحارب إلاَّ حماية لأراضيها، هذا إذا استثنينا الاتحاد السوفيتي الذي لم يكن بأية حال من الأحوال روسيا التي كانت جزءاً منه...! إذاً نجد ان فرنسا قد فصّلت ثوباً شرعياً دولياً يسعها بالمقاييس السياسية ولا يصلح لغيرها..! جارة تشاد الغربية نيجيريا رفضت ان تكون مركزاً للقيادة الأمريكية في افريقيا..! وهذه ورقة اخرى لصالح فرنسا.. مما يدل على أن تأثير فرنسا لم يعد قاصراً على الفرانكوفون إنما تعدى وشمل الأنجلوفون..! وفرنسا تلعب لعبتها في الزمن الحقيقي.. وامريكا تلعب في الزمن الضائع...! فهي اليوم ما بين ثلاثاء كبير وآخر صغير مشغولة بالانتخابات ويقلقها الانقسام داخل الأطلسي ذلك الحلف الذي ذاق الأمرّين في أفغانستان. كل الأوراق اليوم لدى فرنسا التي لا تقلقها انتخابات قادمة، فلها خمس سنوات زمن صافي لا أيام معدودات كبدل ضائع كما لأمريكا..! وحتى تلتفت أمريكا الى العالم بعد الانتخابات سوف تقوم فرنسا بالدور وفي يدها كل الأوراق كشريك على أقل تقدير وليس كتابع كما تعودت بريطانيا..! ولأمريكا وجود في تشاد.. وهذا الوجود ممثل في شيفرون، ولكنه في الظروف السياسية الداخلية الأمريكية لا يمكن تعزيز هذا الوجود بوجود عسكري، ولسخرية القدر على أمريكا ان ممثلها الوحيد في تشاد «شيفرون» سيكون تحت الحماية الفرنسية..! إذاً وحتى إشعار آخر ستكون فرنسا اللاعب الوحيد على المسرح الغرب أفريقي بما في ذلك دارفور...! وقد ذكرت في مقالاتي عن الأمن القومي واتصاله الوثيق بعوامل الجغرافيا ووقائع التاريخ..! ونحن هنا في السودان نواجه هذه العوامل الجغرافية والتاريخية...! واتهام السودان الجائر بزعزعة الوضع في تشاد ما بررته إلا جغرافيا الجوار والعكس صحيح أيضاً..! وليس بمستغرب ان تحارب قبيلة نصفها في السودان مع نصفها الآخر في تشاد..! فنظام تشاد وهو يضرب داخل العمق السوداني وتدخل قواته داخل الحدود السودانية والسودان يلتزم ضبط النفس والصبر يعلم تماماً ان المواجهة لن تكون بينه وبين وتشاد فتلك معادلة مختلة بالنسبة لتشاد، ولكنه يواجه فرنسا بالوكالة عن تشاد...! لذلك ما فرضته عوامل الجغرافيا والتاريخ المشترك بين البلدين وما وجود أفراد قبيلة من داخل السودان، أو العكس من داخل تشاد دليل على تورط أي من البلدين في الأزمة..! نواصل،،،