أسحب خيطاً رخواً من بكرة الذاكرة المتكورة أحرره رويداً رويداً.. من العتمة من، العقد المتحابكة خشية أن ينسل بين أصابعي هكذا اختار النوبلي البرتغالي ساراماغو، الذي رحل في 18 يونيو الجاري عن (87) عاماً، أن يندس بين أفياء طفولته الشهباء.عبر سيرته الذاتية (ذكريات صغيرة) ،والتي يتشمم عبرها عبق والتماعات زمن أثير مستعاد، يسرد تفاصيله هوناً ،دون أن يحاول تقديس ذاك الماضي أو ايقنته.لا شيء البتة من ذلك انما سرد عفوي، مُنكه بكيمياء الكتابة الروائية المؤنسة. ويبدو أن ساراماغو قد مال إلى خفض الطاقة الحكائية لمذكراته ،عبر توظيفه لتقنية تعتمد على الإسترجاع الخاطف والذاكرة الانتقائية، التي لا تتقيد بالضرورة بأعباء الترتيب المنطقي للأحداث وخطها الزمني، بل تملك أن تمد يدها حيث تشاء، لتلتقط بعض نتف التفاصيل الصغيرة الطرية من هنا وهناك.من بين مسالك وفجاج قرية ازينهاغا في وسط البرتغال، حيث يتجول الطفل جوزيه بين الأزقة حافي القدمين، متوثب الروح. وعبر تلك الصفحات تتعاضد التفاصيل لتدعم دلالات الإستهلال الجميل الذي صدّر به ساراماغو تلك الكتابة السيرية، حيث يكتب (أترك زمام أمرك للطفل الذي كنته). لنراقب ذلك الطفل وهو يطأ طين الأرض بقدمين صغيرتين مضطربتين ،مفتوناً بكل ما حوله مهما يكن، حية زاحفة ونملة دؤوب تمضي لوكرها رافعة في الهواء بعضاً من سنبلة قمح.أو ربما ضفدعاً جبلياً يسير مهتزاً فوق أقدام طويلة ملتوية،أو حجراً مصقولاً ،أو دمعة زيت جافة على جذع شجرة خوخ ، وصقيعاً لامعاً يتوامض على صدر مرج سندسي صاخب الخضرة. وتمضي تلك الذاكرة الطفلة ترعى خزامى السهول، وتحسو ماء البراري. لنرى ذات الطفل الدهِش المغامر وهو يحمل قطعة خبز وحفنة زيتون وبعض حبات تين جافة، هي كل زاده وهو يخرج للبرية في طلعاته النهارية، ليتجول بين أشجار الزان والحور، التي تحيط بنهر التاجو.شاقاً طريقه بين الجذوع والعوسجة،التي تتعانق لتشكل أسواراً مدمجة تسيج حواف النهر الرازم. حتى ليتفاجأ ساراماغو يوماً في رحلاته الاستكشافية تلك بأنه يخطو، في تلك النواحي القصية،فوق بقايا طريق روماني مهجور، معبد بقطع حجرية مرصوفة ببراعة وفن. وعبر الحكايا بألوانها المتوهجة والكامدة أحياناً، يبدو ساراماغو دائماً كطفل وحيد محزون لا يكف عن الأصغاء لأرهف الإهتزازات، التي يسجلها راصد الزلازل الخاص بروحه المتأملة.فهو مثلاً لا يملك سوى أن يحتدم غيظاً ويرتج غضباً من الحماقة الفادحة التي ارتكبها الكبار ،حينما سمحوا للإتحاد الأوروبي باقتلاع أشجار الزيتون الصبورة، بجذورها الراسخة المغطاة بالطحالب، وجذوعها المليئة بالمخابئ التي ترحب بالسحالي واليعاسيب. ليُستبدل كل ذلك الثراء بحقل شاسع رتيب، مزروع بالذرة المهجنة ذات العيدان المتساوية السُمك والطول. ويقف ساراماغو طويلاً عند علاقته الوجدانية بالخيول ،وشغفه بمراقبتها وتجميع صورها ورسومها، حتى أنه يقول: (الحقيقة أنني أعاني آثار السقوط من سرج حصان لم أمتطه قط.. وهكذا تسير روحي عرجاء منذ أكثر من سبعين عاماً). ولا ينسى ساراماغو، وسط زخم تلك المغامرات والجولات الاستكشافية الهادرة، أن يحكي قصة اسمه. وتلك المصادفة العجيبة التي جعلته يدخل إلى الحياة موشوماً بلقب لا يمت لأسرته بأية صلة. فقد ذهب والده إلى السجل المدني ليوثّق ميلاد ابنه، لكن الموظف الحكومي السكير المترنح يقوم بتدوين اسم (ساراماغو) من عنده تحت تأثير الخمر. وهكذا وبسبب الارتياب القانوني، لا يجد الأب مفراً من قبول الاسم. الأمر الذي منح الصغير ساراماغو فرصة التلذذ بتزييف مباغت،مكّنه من التخلص للأبد من القاب عائلات قرية ازينهاغا الغريبة والشاقة النطق. * (الذكريات الصغيرة) 2008م جوزيه ساراماغو ترجمة: أحمد عبد اللطيف