واجه جيلنا من الاعلاميين تحديات الثورة الرقمية التى دشنت عصرا جديدا من الانجازات التكنولوجية المتلاحقة والمتجددة، منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضى استوجبت مهارات متقدمة لمواكبتها .لم تعد مناهج كليات الاعلام كافية ولا التكوين الذاتى من اتقان فنون التعبير، وناصية اللغة، وبراعة الاسلوب من يحدد مستقبل العمل الصحفى، كما كان فى مرحلة تقنيات الآلة الكاتبة والتلغراف والتلكس والفاكس والليونتايب.. فجأة وفى فترة وجيزة تمايزت القدرات واتسعت الفجوة لتشكل حدا فاصلا ، حتى بين الجيل الواحد بين الصحفيين التقليديين(traditional journalists ) و(tech no journalists) اصحاب المهارات التقنية الذين واكبوا دراسة وخبرة عصر الوسائط المتعددة، لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات، بقفزاتها المتلاحقة والمستمرة من انجازات برامج الكمبيوتر الى الفيديوتكس (V .T) والتلتكست والاقراص المدمجة والالياف الضوئية . وتتضاعف الخيبة عندما تجد نفسك منافسا لزملاء مهنة من العالم المتقدم واكبوا واتقنوا هذه الانجازات الجديدة .. كانت فرصنا متساوية فى الحصول على الخبر والعناصر المطلوبة لاعداد التقارير والصور إلاّ اننا كنا عاجزين عن ارسالها لصحفنا بينما كانوا يملكون هذه الوسائل الحديثة ويتواصلون مع مؤسساتهم عبر الاقمار الصناعية رغم انقطاع خدمات الهاتف المحلية وغيرها من وسائل الاتصال التقليدية .. لم تعد المنافسة فى السباق للانفراد بالخبر وانما امكانية توصيله وبثه .. عشنا هذا المأزق فى مطلع التسعينيات ... كنا مجموعة من عشرين اعلاميا ، تجمعنا فى مدينة بيشاور الباكستانية والمتاخمة للحدود الافغانية، مشكلين للفوج الأول الذى سيصل الى كابول لتغطية دخول قوات المجاهدين للعاصمة وهى تطارد فلول النظام الشيوعى . كنت موفدا من جريدة «الشرق « القطرية فى معية هذه المجموعة من الشرق والغرب، كنا سبعة من الصحفيين العرب، اثنان من جريدة «الحياة» الاستاذ جمال خاشوقجى ومصور، واثنان من مجلة «درع الاسلام «، ومصور تلفزيونى . رئيس تحرير السودان الحديث «الاستاذ النجيب قمر الدين وشخصى .. نقلتنا طائرة عسكرية من بشاور الى قاعدة باغرام بالقرب من كابول، ثم الى فندق «أريانا» وهو الاسم القديم لافغانستان التى اشتهرت فى العصور الاسلامية باسم «خراسان « . استقبلتنا كابول بدوي المدافع وأزيز الصواريخ، الظلام دامس إلاَّ من ومضات الرصاص ووهج القذائف التى ترقش السماء ، كأنه احتفال بالالعاب النارية غير انها مصحوبة بدمدمات يتواضع معها هزيم الرعد .. الشعور بالخوف فى مواجهة الخطر غريزة انسانية فطرية ، إلاَّ أن عوامل كثيرة تقلل من تأثيره ، خاصة لو كنت فى وسط جماعة من رجال ونساء ، كان معنا اربع صحفيات.. الانسان قادر على التكيف والاستعداد للتضحية، حتى بحياته للقيام بالواجب وتحمل المسؤولية، وهناك مكافأة أخرى، تبث فيك شجاعة من حيث لاتدرى، ان كنت مؤمنا بغض النظر عن معتقدك الدينى، سماويا كان أو روحيا فمكافأة الايمان بما لا ترى، هى ان ترى ما تؤمن به ساريا بين جوانحك ! كنت ترى الجميع يتمتمون فى خشوع بكلمات لا تسمعها صلوات او تهويمات من معتقدات شتى وتحس بالطمأنينة على كل الوجوه وتزداد اقتناعا اذا جاء الموت لن تكون موجودا واذا تأخر فانه سيأتى يوم ما فلماذا القلق ! ؟ ومع كل هذه المخاطر يكمن الموت الحقيقى للاعلامى فى عجزه التام عن القيام بواجبه وهو يرى ويتابع الأحداث أمامه ويفشل فى توصيلها لمؤسسته وقرائه، وتزداد فجيعته وهو يرى قلة من أقرانه يتواصلون مع مؤسساتهم فى سهولة ويسر وبالتحديد كان بيننا أربعة مراسلين وفنيين لل( سى ان ان ) وثلاثة لل (بى بي سي) نصبوا اجهزتهم وتواصلوا مع رئاساتهم عبر الاقمار الصناعية .. ورغم مرارة هزيمتنا ، إلاَّ أننى تمكنت من اجراء أول حديث مع الشيخ برهان الدين ربانى الذى أعلن أول رئيس للجمهورية الاسلامية الوليدة ، وتمكنت من ارساله عبر اجهزة اللاسلكى للجمعية الاسلامية فى بيشاور، ومنها الى جريدة « الشرق « التى احتفت به ونقلته عنها وكالات الأنباء العالمية.. بالطبع تلاحقت الكتوف بالنسبة للاجيال الجديدة، وامتلكوا كل التقنيات الحديثة مثل غيرهم فى عواصم الدول الغربية وتفوقوا فى تغطيات ميدانية مباشرة مثلما حققه مراسلو الجزيرة فى معارك ما بعد غزو العراق .. ومن خلال تجربتى الصحفية، أقول إن من لا يمارس مهنة ومهام المراسل الصحفى فى الحروب والأزمات الساخنة فقد فاته الكثير من عطاء هذه المهنة الرسالية وقد اكرمنى الاستاذ ناصر العثمان رئيس تحرير « الشرق « سابقا- وعميد الصحافة القطرية - عندما كلفنى بهذه المهام منذ عام 1991 واوفدنى الى الاتحاد السوفيتى لتغطية تفكيك الامبراطورية، والى افغانستان، والى الجزائر لتغطية الانتخابات التى فازت فيها جبهة الانقاذ ، وأدت الى الحرب الأهلية، والى القرن الافريقى لتغطية سقوط الرئيس سياد برى فى الصومال ونشوء دولة أرض الصومال و حرب تحرير اثيوبيا وارتريا وسقوط نظام منقستو هايلى ماريام ، والى لبنان لتغطية مذبحة قانا، وقد تم توثيق هذه الأحداث فى سلسلة من الكتب : * ثلاثة أيام هزت العالم : انهيار الاتحاد السوفيتى * افغانستان وتحديات الجهاد الأكبر : شاهد على سقوط كابول * شتاء الغضب فى الجزائر * حروب القرن الافريقى. * عناقيد الغضب: مذبحة قانا * استراتيجية ادارة الأزمات وأشرت فى حلقة سابقة تزامنت مع رحيل زميلنا الأستاذ سيد أحمد خليفة -رئيس تحرير جريدة « الوطن « السودانية الى اعتقالى فى جيبوتى اثناء توجهى الى هناك فى رحلة القرن الافريقى ... بعد اتمام زيارتى الى هارجسيا، عاصمة أرض الصومال، وكنت أول صحفى يصل الى هناك بعد اعلان استقلالها وانفصالها من الصومال الجنوبى مقاديشو، وقد تلقيت دعوة لزيارتها من الرئيس عبد الرحمن أحمد علي «تور» الذى ربطتنى به صلات وثيقة منذ عمله سفيرا للصومال الموحد فى السودان . ومن سوء حظى توقفت كل سفريات طيران الخطوط الاثيوبية والخطوط الكينية، ولم أجد وسيلة غير مشاركة ثلاثة تجار يحملون الجنسية الجيبوتية واستأجرنا طائرة صغيرة من طراز «سسنا «، اقلتنا الى جيبوتى، وعند وصولنا أُحتجزت فى المطار ومعى قائد الطائرة وسمح للجيبوتيين بالدخول وحسبت أن الاجراءات لن تطول عندما ابلغونى بأن هناك أوامر مشددة بعدم دخول البلاد، إلاَّ بتأشيرة دخول مسبقة ، نظرا للاضطرابات فى المنطقة واحتجز الطيار ايضا لحمله راكباً بدون تأشيرة دخول واتصل الطيار- وهو فرنسى الجنسية - بسفارته وتم اطلاق سراحه، وظللت وحدى فى الحجز مع معاملة كريمة من الشرطة، وقد مهدوا لى الاتصال بالصديق علي حمد ابراهيم سفير السودان وطمأننى بأنه سيتم اطلاق سراحى دون تأخير ، وقال لى لن الجأ الى الاتصالات الرسمية و صديقك الأستاذ سيد أحمد خليفة معى، وبالفعل جاءنى الأستاذ سيد أحمد ومعه أحد كبار المسؤولين من قصر الرئاسة وصحبنى معه الى الفندق، ضيفاً عليه ..!