لم يكن يخطر على بالنا أن تكون هنالك منطقة داخل حدود العاصمة الحضارية «الخرطوم» بكل ذلك البؤس منطقة «الحسانية السليت- الأحامدة- اولاد عطا» شمال مدينة بحري موغلة في التخلف من حيث الخدمات الأساسية- لا كهرباء ولا مرافق صحية بالرغم من قناعتهم واقتناعهم بالعيش بذلك الوضع إلا أن المعاناة تأبى أن تبارحهم.. فإذا بسكانها ذات ظهيرة يتفاجأون برتل من عربات الشرطة- وآلة هدم ضخمة تتوغل إلى حرم القرية وتدمر منازلهم وتحيلها إلى كومة من الركام.. وسط دهشتهم دون إبداء مبررات.سكان القرية طلبوا منا أن نقف على أوضاعهم التي ازدادت سوءاً بعد أن باتوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بعد ان تهاوت الجدران التي كانت ساتراً لعوراتهم وواقياً لهم من زمهرير الشقاء وهجير الصيف وضربات الأمطار. .... وسط الركام أشار لنا مرافقنا إلى أكوام من ركام المنازل المنهارة قائلاً: قبل عدة أيام كانت هنا قرية.. المكان موحش وخيام من القش تتناثر هنا وهناك والخوف يعتلي وجوه المواطنين من مصيرهم إذا بقوا على هذا الحال والخريف على الأبواب.. توقفت العربة التي كانت تقلنا بالقرب من مجموعة من المواطنين البسطاء.. وأقبلوا علينا ظناً بأننا موظفون من المحلية نحمل إليهم الخيام ولكن أصابتهم خيبة أمل بعد أن علموا بأننا صحفيون.. حقيقة شعرنا بالانكسار الذي بان على محياهم.. رجل مسن يتكئ على عصا بالكاد استطاع الوقوف على رجليه، اقتربنا منه.. قال لنا بحزن أنا أعيش هنا منذ أكثر من «05» عاماً انجبت هنا ابنائي وانجب ابنائي أحفادي.. وفي آخر المطاف تأتي «كراكة» وتهد منزلي ومنزل ابنائي ويتركونا في عراء؟ بينما تحدث إلينا رجل كبير قائلاً: أنا أسمي أبو زيد الطاهر عبد الله عمري «120» سنة - لا ندري بأي جريرة تتهدم منازلنا ونعيش في العراء فنحن هنا منذ السلطنة الزرقاء وهذه الأرض ليست لأحد سوانا.. ويمضي قائلا بعد أن صمت برهة: نحن ارتضينا أن نعيش حياة بدائية لا ماء ولا كهرباء.. ولا خدمات صحية.. «كنا كافين خيرنا شرنا» ولكن قبل أيام وحوالي الساعة التاسعة صباحاً سمعنا ضجيجاً وخرجنا لنستطلع الأمر لنجد «كراكة ضخمة» وجيشاً جراراً من التابعين لها وعربات الشرطة تحاصر القرية أدركنا بأن الأمر جلل ولكننا لم نتوقع أن يهدموا منازلنا- طلبنا منهم ابراز أمر الازالة ولكنهم رفضوا وقلنا لهم أعطونا وقتاً كافياً لنتدبر أمرنا.. إلا أنهم لم يسمعوا لنا.. وفي الجانب الشرقي من القرية تقف غرفة واحدة وسط أكوام بقايا منزل متهدم أقتربنا منه استقبلتنا امرأ ة في الاربعينيات، وعدتنا للدخول إلى غرفة جدرانها متشققة وترقد داخلها امرأة وضعت حديثاً وبجانبها مولودها الصغير وتروى لنا المواطنة عفاف عطية والدة المرأة التي ترقد بالغرفة بأن الكراكة فاجأتهم ولم يكن يعلمون بأن هناك إزالة فلذا لم يتدبروا أمرهم- وعندما اقتربت من منزلنا توسلنا إليهم ان يمنحنونا فرصة لاستخراج أمتعتنا واواني المطبخ ولكنهم لم يستمعوا لتوسلاتنا.. وهدموا كل المنزل فوق الأمتعة والأواني سوى هذه الغرفة.. قلنا لهم بأن بها امرأة وضعت حديثاً فتركوها. «12» فرداً في كرنك استرعى انتباهي مشهد امرأة مسنة تحمل معولاً وتزيح ركام المطبخ لاستخراج أوانيها والعرق يتصبب منها.. اقتربت منها قلت لها لماذا لا تدعين أحد أبنائك ليساعدك في هذا؟! قالت اولادي غير موجودين. ومع من تسكنين؟ قالت مع ابنتى وزوجها وابنائها.. واشارت إلى عشة من القش مساحتها لا تزيد عن «51» متراً.. وقالت بعد ان تهدم منزلنا نعيش هنا ودعتني إلى الدخول وجدت سريرين وفرشاً من الحصير وبوتجاز وتلفزيون قديم أبيض وأسود.. قالت لي: نحن «21» فرداً كلنا نقضي ليلنا هنا وبالنهار نخرج إلى تلك الشجرة «شجرة صغيرة» جوار العشة.. قلت لها: منذ متى تعيشين في هذه القرية قالت منذ سنوات طويلة.. لا أذكرها ولكن تقريباً لا تقل عن «04» عاماً .. قلت لها هل تركوا لكم الحمامات؟ قالت: لا لم يتركوا شيئاً كنا نتوسل إليهم أن يتركوا لنا غرفة واحدة من «4» غرف إلا أنهم رفضوا وفي اليوم التالي أصيب طفل ابنتي بالتهابات حادة نتيجة الشمس وجلوسنا تحت هجيرها.. فأضطررنا «بلفه بقطعة مبلولة» حتى لا يصيب جلده الجفاف ولتخفيض درجة حرارته التي كانت عالية جداً ولكنه الآن أصبح معافي والحمد لله... وقبل أن استأذن منها دخلت علينا ابنتها تحمل كوباً من الشاي.. قالت لها والدتها لماذا لم تأت بكوبين؟ قالت: ليس هناك كوب آخر. المهم خرجت وأنا حزين للوضع الذي تعيشه تلك الأسرة. المواطنون يتذمرون وأبدى المواطنون تذمرهم من عدم اخطارهم بالازالة قبل وقت كاف بالرغم من عدم اقتناعهم بالمبررات التي صاغتها السلطات، ويقول أحدهم بأنه طلب من الفريق الذي حضر لتنفيذ الإزالة ان يبرزوا ما يفيد بذلك إلا أنهم ردوا عليه بأنهم مأمورون وحسب. واستطرد: كيف بربك تتشرد أسر كثيرة بهذا الشكل بدون توفير بديل آخر؟.. ويمضي سليمان فضل الكريم أحد المواطنين وهو ينظر إلى أطلال منزله والحزن على عينيه: الجماعة جو في القرية وقالوا لينا أخلوا منازلكم- فأستغربنا من هذا الطلب الغريب.. فأستفسرنا الأمر قالوا: لاننا سنزيل بيوتكم فطلبنا منهم ان يبرزوا ما يفيد فرفضوا قلت لماذا لم تخطرونا إذن؟. فقالوا بأنهم لن يخطروا ثم استطرد متسائلاً: «أنا أسكن هنا منذ أكثر من «04» عاماً- لماذا يتصرفون معنا هكذا؟ ثم ألسنا مواطنين سودانيين؟! و لماذا لا يوفرون لنا البديل إن أرادوا الاستفادة من المنطقة في شئ آخر؟! وسرد لنا المواطنون بأنهم نقلوا نساءهم الواضعات إلى ظلال الأشجار في عز الهجير- ويتدخل شخص ويقول: أليست الدولة مسئولة عن سلامة هؤلاء النساء وإذا افترضنا بأنهن أصبن بسوء، من المسئول؟!. نجاة طفل بأعجوبة بينما نحن نتحدث مع بعض المواطنين تقدم أحدهم وقال بأن هناك طفلاً دفن تحت الأنقاض وانقذته العناية الآلهية من موت محقق. تحركنا صوب أسرة الطفل فإذا بهم يجلسون في راكوبة صغيرة وأمتعتهم التي نجت من انياب «الكراكة» تتناثر في العراء، وأشار لنا أحدهم إلى أن الأسرّة التي تكسرت تحت الانقاض لأن الذين نفذوا الإزالة لم يمنحوهم فرصة لاخراجها من البيوت وقال بأنهم توسلوا إليهم إلا أنهم رفضوا بشدة. ويقول إسحق الدوم من منطقة سليت الحسانية بأنه جاء إلى هنا في العام 1968م. ولم يصلنا أي أخطار من قبل أو نسمع بأن هذه الأراضي لاشخاص معينين، فإذا بنا نتفاجأ قبل أيام بكراكة جاءت لإزالة المنازل- وبعد ان رفضوا إعطاءنا ما يسند قرارهم دخلنا إلى البيوت لاخراج امتعتنا إلا أنهم لم يعطونا الفرصة.. فهدموا الجدران فوق امتعتنا.. وأصيب الناس بالفزع وبينما نحن في وسط هذه المعمعة اسقطت «الكراكة» جداراً فوق طفل صغير، وأشار صوب طفل صغير يلف يده بقطعة قماش.. قلنا له ما اسمك إلا أنه لم يرد فقال لي والده حسن أسحق بأن الطفل ما زال في حالة ذهول مما حدث له.. وأستطرد بأن الطفل عبد الرحمن حسن إسحاق «6» سنوات عندما رأى «الكراكة» خاف واختبأ تحت السرير فلم ينتبه له أحد إلا بعد صراخه وهو تحت الأنقاض فنبهناهم بذلك.. ورفعنا الانقاض بسرعة وأخرجناه ولكنه الحمد لله لم يصب اصابة كبيرة. وأضاف: لولا السرير الذي كان يختبئ تحته لحدث له مكروه. من الذي أصدر القرار؟ ويبقى السؤال: ما هي الجهة التي أمرت بإزالة تلك القرية.. أجاب على هذا السؤال سعد محمد حسن مصطفى سكرتير اللجنة الشعبية بالمنطقة ورئيس قطاع الزاكياب- والتينة - الحسانية- الأحامدة- المرايد- أولاد عطا. بأنهم ما زالوا يجهلون الجهة التي أمرت بذلك بحيث أنهم ذهبوا إلى معتمد بحري فقال بأنه لا يدري شيئاً وذهبوا إلى الأراضي أيضاً نفوا علمهم بهذا القرار- وكذلك ولاية الخرطوم وأضاف بأن لديهم ما يثبت بأن المنطقة لا تدخل ضمن المخططات الجديدة قبل العام 1002م وينظمها سكانها حسب الحال وإن كانت هناك جيوب داخلية تترك لأهلها للتصرف فيها حسب الحال.. وأضاف بأن الإزالة صدرت على أن سكان هذه المنطقة نازحون، كيف بربك ان يكون هناك اناس يسكنون في منطقة منذ عشرات السنين ويصنفون بأنهم نازحون؟! وأضاف بأن قرار الإزالة صدر دون أي ترتيب لتوفيق أوضاعهم او تعويضهم في حالة الإزالة ودون تحديد أية منطقة يمكنهم اللجوء إليها.. وقال بأنه يناشد وزير التخطيط العمراني بالتدخل لحل هذه المشكلة.. بأسرع ما يمكن نظراً لاوضاع المواطنين الذين يعيشون في العراء منذ أكثر من أسبوع.