بعد ان ارتفع سعر تيار حرارة الإعجاب بالشيوخ اجتماعياً، وشهدنا اقتران بعض المثقفات والجامعيات بشيوخ أكل الدهل عليهم وشرب، وأصبحت تلك موضة روّجت لها أغنيات البنات «راجل المره» و«عرّفني بي بتو» مقابل النقد اللاذع للإقتران بالشيوخ في أغاني السبعينات «الشايب دا اللّه بيني وبينو»، الآن تعلو نبرة بإقصاء الشيوخ سياسياً وفنياً.. فقد حدّثني قارئ دؤوب للصحف عن إعجابه بحديث لأحد السياسيين يُطالب بأن يتدحرج شيوخ السياسَة الى أعلى، فيقومون بأدوار استشارية وإشرافية ويخلون الساحة للشباب.. وبَعد أن قَرَأت مَقالاً للزميل دكتور كمال حنفي في زاويته «إلاّ قليلاً» يُطالب باعتزال الفنانين الذين تعدوا السبعين من العمر. سمى القارئ السياسيين وكان على رأسهم «الترابي.. الصادق.. الميرغني.. نقد»، أشار دكتور حنفي بالكناية بأسماء أغانيهم الى «وردي وكابلي وترباس وصلاح مصطفى وحمد الريح وغيرهم». الطريف أنّني تَخَيّلت ذهاب هؤلاء من سُوح العمل السياسي والفني.. وتَسَاءلت ماذا بقي لنا إذاً! كيف سيكون حال السياسة والفن بدون هؤلاء العمالقة..؟ وحاولت مُقارنة ذلك «بالكوتشينة» على الأخص اللعبة الوحيدة التي أعرفها ومَارستها وهي «كونكان اربعطاشر»، تَخَيّلت لو تم استبعاد كرت «الشايب» فهل يمكن أن تستمر اللعبة..؟ وجدت أنها ستكون بايخة حتى لو زدنا عدد «الجواكر»، و«الجوكر» كما قال معلمنا الراحل عبد الله الطيب ورقة تسد مسد أيّة ورقة. فهل ثمة جواكر في السياسة والفن يسد مسد هؤلاء العمالقة..؟! أنا بصراحة من جيل لا يمكن أن يطالع لوحة السياسة بدون الترابي أو الصادق أو أبو هاشم أو الرفيق المحبوب لأربعين مليون سوداني محمد إبراهيم نقد «الناس يحبونه لكن لا يُصوِّتون له»..! وكيف تكون لوحة الغناء بدون وردي وكابلي وترباس وصلاح مصطفى..؟ هل شاخت أصواتهم.. ليست مشكلة أن يشيخ الصوت.. المشكلة أن يكون قبيحاً ونشازاً.. فلو كفت عن التغريد الطيور غير الجَميلة الصوت لأصبحت الأشجار ساكنة.. الأمثال السودانية تقف مع الشيوخ ف «الما عندو كبير َيفتِّش ليه كبير»، وأكبر منك بيوم أعرف منك بسنة.. والدهن في العتاقي.. والشجر الكبار فيهو الثمر وتَأدّب لمن رأي الشمس قبلك قبلك. للزميل حسين خوجلي مقولة منطقية نظرياً صعبة التطبيق عملياً، مؤداها أن المجال مفتوح للجميع.. للحقيبة والغناء الحديث ولغناء الشباب، فلابد أن يُغرِّد الجميع دون إقصاء أحد ولكن من ناحية الكم، فلابد من إزاحة للبعض.. فالإزاحة سُنة الحياة.. وكما قال أستاذنا صلاح عبد الصبور: ليس الموت حتف الأنف.. تعالوا خيّروا الأجيال ما تصنع - لكي توسّع لمن يتبع - فلن تختار غير الموت. الموت وحده هو الذي يزيح الأجيال - فلماذا الاستعجال.. وبعض شُيوخ السياسة ظل يهذي بها وهو في سَكَرات الموت.. سُنة الحياة أن نسهم جميعاً في تَعميرها.. والشيوخ خبرات وتجارب.. وموت شيخ هو موت ذاكرة.. وإقصاء شيخ هو إقصاء كتاب للحكمة.. الطبيعي والمألوف أن نعيش سوياً مثل الأسرة.. فهل نطالب بإزاحة الجد والحبوبة من كيان الأسرة بسبب السن.. أو إقصائهما الى دورالرعاية للمسنين..؟ رَغم انني من الذين يؤمنون بأنّ حواء ولادة.. وأن الشباب يجب أن يتسنموا القيادة، إلاّ أنّني لا أتصور الحركة الإسلامية بدون الترابي، ولا الحركة اليسارية بدون نقد، ولا تيار الأمة بدون الصادق، ولا الاتحادي بدون أبو هاشم.. كما أنّه لو أُزيح وردي وكابلي وترباس فسأعود لسماع أم كلثوم وحليم..!