الحافلة في طريقها الى مدينة ام درمان.. الطريق بدا مزدحماً بالسيارات من كل جنس وقبيلة تراصت كالنمل وأخذت تزحف كالسلحفاة .. الضجر والقلق تسرب لنفوس الراكبات.. وحبيبات العرق المالح تطفر من الوجوه.. بجواري يجلس رجل ستيني العمر والمزاج يدندن باغنيات من الزمن الجميل. من راديو الحافلة جاء صوت الفنان عبدالعزيز محمد داؤود وهو يغني اغنية اشاعت الصمت بين الجميع. عربدت بي هاجسات الشوق اذ طال النوى وتعالت ذكريات عاطرات بالهوى كان لي في عالم الماضي غرام وانطوى عدوى الصمت سرت بين عامة الركاب بالحافلة وساد صمت بليغ وصوت الراديو يرتفع قليلاً.. وداؤود يشجي اسماع المستمعين للراديو داخل الحافلة.. والرجل الستيني اشتد به الطرب وبلغ به مبلغاً عظيماً.. وأخذ يغني مع صوت الراحل ابو داؤود وكأن لا أحد بالحافلة غيره.. ودون أن يكترث لمن حوله.. كان الطرب أسكره وغيب عقله.. والفنان يشجي مسمعنا: سكر السمار والخمار في حان الغرام وانا الصاحي ارى في النور اشباح الظلام وبدت كأسي على راحي بقايا من حطام سرتني الحالة التي وصل اليها الرجل.. فالغناء حس ابداعي يتسق مع الفطرة السليمة.. وهنا تذكرت قصة رواها الاعلامي محمد سليمان بشير.. عن الفنان ابو داؤود فقال «ابان اجتماع اتحاد الاذاعات العربية عند تأسيسه بالخرطوم في بداية 1962م والله أعلم.. أقيم حفل للوفد المشارك فتغنى فيه ضمن من تغنى عبدالعزيز داؤود باغنية «مساء الخير يا أمير» مساء الخير يا الأمير.. يا الحبك شغل الضمير غيرك ما لي سمير ويروي محمد سليمان أن أحد الحاضرين من تونس الشقيقة قد استبد به الغناء والطرب وذهب الى المسرح.. وتفاعل مع عبدالعزيز وجلس امام قدميه قائلاً «والله انت ما بشر؟ أنت ايه...؟ انت ملاك؟ انت الامير.. انت ملك الطرب». ورواية اخرى يرويها الاستاذ عبدالمنعم مكرنجا ان السودان شارك بوفد ضمن وفود عربية لاحتفال بالكويت شاركت فيه نخبة من الفنانين العرب منهم أم كلثوم وطلال مداح وفهد بلان، وغيرهم ويومذاك تغنى عبدالعزيز داؤود بأغنية فقام أحد الامرأء وخلع عقاله والبسه للفنان ابوداؤود قائلاً: «انت أمير الطرب.. واهداه يومها ساعة ماسية... سألت الرجل الذي بجواري يستحق عبدالعزيز كل هذه الضجة؟ فالرجل سرح بخياله.. وابتسم ابتسامة رضا.. فتذكرت مقطع من اغنيات الراحل: عاد بي الوجد الى ليلى وكأسي المترع وسعير الحب يشقيني ويشقي مضجعي ولهيب الشوق يدعوني. فهل انت معي؟ من الذي يستطيع ان يدرس حالة الفنان الكبير ود داؤود ونقصد دراسة خصائصه الصوتية والادائية واللحنية وقدرته الفائقة في اختيار مفرداته الشعرية. عبدالعزيز داؤود فنان بمعنى الكلمة.. حتى حياته بها الكثير من الملح والطرف والنوادر حتى اصبحت تنسب اليه بعض المواقف لتجد حظها من الذيوع والانتشار.