لقد شُغل ساستنا في الحكومة الوطنية وزعماء المعارضة بدفع البلاء والمؤامرات التي تحيط بوحدتنا، فقد استطاع نفر كريم من هذه البلاد ان يتفرغ لجزء آخر من أمننا القومي وهو نهضتنا الزراعية، وقدمت اللجنة العليا لدراسة الواقع والرؤى المستقبلية للزراعة في السودان، برئاسة النائب الأول تقريرها العلمي الذي اشترك فيها الى جانب العلماء، ذوو الرأي والمصلحة الفنية ممثلو المزارعين والقطاع الخاص.. ذلك التقرير الذي خصص وقتاً مثمراً من تاريخ هذه البلاد في دراسة مفعمة ونقاش مستفيض مثمر.. وأصدر مجلس الوزراء الوطني ممثلاً للشمال والجنوب برئاسة السيد عمر البشير، قراره التاريخي بأن الزراعة هي هم البلاد الأول وهي قاطرة التنمية السريع، وأن النظرة الدونية اليها يجب ان تتبدل الى نظرة سيادية فهي ليست أمننا الغذائي فحسب ولا أمننا الثقافي أيضاً، بل أمننا القومي، بل هي ما نستطيع ان نسهم به في سلام عالمي مهدد وهذه هي جملة معاني نهضة السودان الزراعية.. ولئن خشى بعض الاقتصاديين من أن يصيبنا ما يُسمى «بمرض البترول» الذي أصاب كباراً غيرنا حيث أصبح يشكل «05%» من مواردنا و«58%» من صادراتنا، ورأى البعض الآخر أن نربط موضوع الطاقة «محترقها» التقليدي منها بالاستثمار في الزراعة، وقد تعرضنا لضرورة استنفار الطاقة النووية في مقال سابق، وأخصص هذه التأملات الى أن يقوم «المجتمع» كله بواجبه للمشاركة في النهضة الزراعية، حتى تصبح نهضة التنوير والوحدة والوطنية، وعندما نتحدث عن «المجتمع» لا نستبعد المجتمع القريب والمجاور إذ أن محرري التقرير وأوصوا «بالشراكات الاستراتيجية» تلك التي يشارك فيها الأصدقاء لحل مشاكلهم أيضاً مثلاً مشكلة القمح في السعودية أو الخليج، أو مشكلة الأرز والسكر والثروة الحيوانية، في مصر، أو حتى مشاكل المياه في دول حوض النيل ومبادرته، كل ذلك لتستعيد التربة قوتها، ونحافظ على البيئة لتمكننا من التنمية المستدامة، ثم نقلل من أخطار تغيرات المناخ والتكيف والتأمين على ما قد يصيبنا منها، ونشارك في سوق الكربون دفعاً للإنبعاثات الدافئة(General warming) ، ولا أطمع أكثر من أن أقدم هنا جزءاً من سمات التقرير الشامل الذي قدمته اللجنة العليا، والذي حواها في شكل «راسيونال» أي مبررات «الملخص التنفيذي» ولا التفعيل الرقمي للاستراتيجية المقترحة وبرنامجها التنفيذي، ولم تتنكر اللجنة لما قدم من قبل من خطط قصيرة أو طويلة المدى منذ فجر الاستقلال، ومطالبة المجتمع الدولي آنذاك بأن يكون السودان احد ثلاث دول يتوقع العالم ان تسهم بفعالية في تحقيق أمنه الغذائي، ولكن اللجنة أوردت عدم الاستقرار السياسي كسبب من أسباب الخلل كما تورد تحسن الظروف واستشراف السودان سبباً من أسباب الأمل، ان النظرة السيادية الجديدة لا تؤثر في دور الزراعة في التنمية الريفية وتؤكد دور الريف في تراثنا الثقافي، ولكن تضيف الى ذلك كما قدمنا أنها المحرك لاقتصادنا تجارة وصناعة ونقلاً وعمالة طبعاً.. وبعد ان استعرضت اللجنة عوامل القوة، وأسباب الضعف، أكدت مبادىء وعوامل النجاح المفتاحية لتحقيق النهضة الزراعية وفق الرؤية الاستراتيجية التي تستشرف آفاق المستقبل مستندة على تسع مقدمات: 1/ تهيئة البيئة المواتية للإنتاج. 2/ رفع القدرات الفردية والمؤسسية. 3/ استخدام أمثل للأراضي الزراعية. 4/ الخدمات المساندة. 5/ تطوير وتحديث النظم الزراعية. 6/ حماية وتنمية الموارد الطبيعية. 7/ التصنيع الزراعي. 8/ أعمال متطلبات الجودة والسلامة الغذائىة. 9/ الشراكات الاستراتيجية. التوقعات وتتوقع اللجنة إن نُفِّذَ البرنامج تنفيذاً كاملاً ان تحدث زيادة في الانتاج الزراعي والصناعي وتطوراً في الدخل القومي ونمواً مقدراً في الصادرات الزراعية وحراكاً في النشاطات المصاحبة مثل التجارة والنقل والخدمات الاخرى وتوفير فرص العمل ومحاربة الفقر وتجويد الحياة في الريف والاستقرار فيه. وليسمح لنا بملاحظتين:لقد فصلت اللجنة في لوحة عشرين من البنود المفصلة للبرنامج من السياسة الكلية الاقتصادية والمالية والجهة المعنية بالتنفيذ ومداها الزمني وتخصيص نسبة لا تقل عن «02%» من الإيرادات العامة سنوياً لتأسيس وتحديث البيئة التحتية زراعياً وحيوانياً.. الى التشريع والتعليم الزراعي، البحث العلمي، نقل التقانة والارشاد ومشروعات السدود والتوليد الكهربائى، وقد قدرت تكلفة اعتماد تنموي «63.1» مليار جنيه في العام 8002م و«43.1» للعام 9002م تنخفض فيما بعد الى «1.1» مليار إلى ومليار واحد في العام 0102 - 1102م ولا يوجد وقت للتفصيل. ملاحظات عامة ولكن ليسمح لي وأنا أشيد بالهيكلة التي اقترحت تحت رئاسة النائب الأول أن أشدد على ضرورة وجود مؤسسة فنية على رأسها مستشار يكون الضمان الفني، وأمين عام دائم يكون الضمان لتنفيذ النظام(System) ، والملاحظة الثانية، أن كل هذا لا يتم إلا بتوفر الإرادة السياسية الصادقة وأيضاً مشاركة «المجتمع» على أن تبني هذه المشاركة على أساسين: التوعية والتعبئة والمتابعة والتقديم. وكلنا سنكون كالجنود المجهولين المتطوعين لإنجاح النهضة الزراعية ورسالتها الوطنية المقدسة. محمد «الكامل» بين الشوقيات والوطنيات والعالميات.. لم يجد «أولاد أمدرمان» مكاناً يكرمون فيه رمزاً من رموزهم الخالدة، غير هذه «الربوة» من دارهم التي تطل على مشهد النيل الكبير وشهادته.. ذلك أن «أولاد أمدرمان» اكثر السودانيين جعلية، ولكنهم أكثرهم قومية «وبوتقتهم» تؤكد الهوية والثقافة القومية، وتاريخهم يحارب الجهوية والقبلية، أليسوا هم الذين ورثوا «شيخ الأندية» ونهضة مؤتمر الخريجين؟ ومضة «الاستقلال» التي بدأها «المهدي» وهذه عاصمة عندما كان الغرب كله يمزق افريقيا كلها ويوزعها شتاتاً، وأعاد أولاد أمدرمان ذلك المشهد الذي يضيف الى عبقرية المكان عبقرية الزمان أيضاً.. «كامل شوقي» وللشوقيات تاريخ أصيل في هذه البلاد ورثها أباً عن جد ومنذ الصغر وفي دمائه تجري جينات الخدمة المدنية التي جعل منها خدمة وطنية وهو من أبناء هذا الجيل الذي لم تعقه قيود الخدمة المدنية، من ان يكون مكافحاً ووطنياً، وعندما عين أول مدير للغابات وأصغرهم سناً جميعاً، لم يترك قدسية العمل، وساير ظروفاً صعبة ولينة ولكنه بقى كاللؤلؤ في اللهب ولا يحترق، وغادر «الخدمة» وهو أكبر المسنين ولكنه أكثرهم نشاطاً، وكان دائماً يقول: «نحن الشركاء لا الاجراء ونحن منزل المسؤولية وليست الوزير ولا السياسي». روى الوزير «التهامي» رفيق درب شوقي الطويل، وقد تعاصرت خدمتهما في كثير من المواقع الوطنية ووقفا وقفة صلبة ضد كل الظلم الذي تعرض له أبناء السودان في محنتهم.. روى الوزير التهامي انه صحبه أي كامل للقاء رئىس البلاد عمر البشير، في أداء واجب عزاء ولكن الرئىس أطال اللقاء، وكان التهامي ينتظر ان يشكو كامل للرئيس مشاغل ومتاعب المعاشيين ووجوب الاهتمام بهم كمصدر لرأسمال بشري وشجري للسودان، ولكن فوجيء التهامي أن «كامل شوقي» وهو يودع الرئىس قال له أرجو أن تستوصوا بالغابات خيراً. وهكذا معدن الرجال ومعادن الرجال! تلك الليلة التي افتتحها العميد السفير ميرغني رائد أولاد أمدرمان في ربوتها التي تطل على المكان العبقري والزمان، وكان الوصول اليها غير ميسر، ولكن عند الوصول يلقاك شعر البنا وغناء أبنائه فتحل البهجة والسرور. ولا نصدق ان العميد ميرغني، قال إن كلماته آخر الكلمات الثقيلة فلم تكن هنالك غير كلمات شعراء عبد المجيد الأمين، وكلمات أهل أمدرمان ومحبيها، وألحان البنا ومقاطع شعره وحرم «كامل» من الرد شاكراً، ولكن لم نحرم جميعاً من ليلة من ليالي أم درمان.. وتوأمتها النادرة! «كامل شوقي» تلقى تعليمه الأول على مدرسة إسماعيل الازهري وعبدالفتاح المغربي، وعوض ساتي، ونصر الحاج علي.. أما يكفي، هو الذي ذهب الي الخارج في جامعات اسكتلندا يدرس «الغابة» ليس لأنه وجدها أكثر سحراً من الصحراء، ولكن لأنه وجدها أم النهضة الزراعية في بلادنا حامية من تغير المناخ، قبل أن يكون مودة، وخاصة محصولاته الذهبية، الصمغ والخشب المهوجني والتيك وغيره من اللآلىء. حاضن الغابات هذا هو شاعرنا الذي يقول فيها مقاطعاً «شوقي»: إنما الأمم الغابات ما بقيت فإن هموا ذهبت غاباتهم ذهبوا! وهو الذي يعارض ألفية بن مالك، بمئوية ابن شوقي في الغابات آيات بينات من الأشجار والغابات، وفي هذه المئوية حول العلم الى أدب وسجل مسيرة غابة في لجة الوطن، وعلى كليات الغابات عندنا تدخلها في منهجها. ولم يفت على أولاد أم درمان، ان يجمعوا بين تكريم كامل شوقي، وتكريم صنوه من أسرة «البنا» المشهورة وأحد اساتذتها وشعرائها الكبار كان من أساتذة كامل وتوأمة أحياء البنا، وأحياء السوق الكبير، حيث نشأ كامل شوقي تؤكد آصرة النسب بين الأسرتين الكبريتين، بل بين أسر أم درمان، التي تجل الفن والعلم معاً وتعتقد أنهما في تنوعهما الثقافي يلتقيان. وأخيراً لا نهمل «عالمية» كامل شوقي ومساهماته في منظمة الزراعة العالمية وتمثيله لها في بلادنا العربية.