ينتبه إلي الحوار المتصل في الخطاب القرآني مع أهل الكتاب وذلك الحوار يغطي ربما نصف الخطاب القرآني ، وأعطي خطاب القرآن الكريم أولوية لمخاطبة أهل الكتاب ، لأن من له كتاب ، يقوده للقراءة والكتابة ، والكتابة والقراءة هي التي تشكل التاريخ ، بل هي ذاكرة التاريخ ، والفرق الاساسي بين الشعوب التي تقرأ وتكتب والتي لاتقرأ وتكتب ، أن أهل الكتاب ينتجون الحضارة بينما الذين لايكتبون يكتفون بالتصالح مع واقعهم واعادة انتاج غدهم صورة لأمسهم ، اي يمضون بلا تطور ولا متابع ترقيات ، حال مجتمعات إفريقيا التي ظلت علي وضعية الإنسان الأول ، إلي أن اطلت عليها المدينة بالقلم واقرأ . والتفاوت الحادث بين الأفارقة ، هو تفاوت التعاطي مع الكتاب والذي من دون كتاب ، كأنه مشطوب من التاريخ وهو حاضر فقط بالكم لا بالكيف ، لأنه بدون كتابة ، يصعب الاستفادة من تراكم الخبرات ورص التجارب واستنباط دروس المستقبل . كثيرا ما يسألني طلبتي عما ماذا أقرأ ؟ أنا مثلا تركت قراءة كتب الفلسفة ، وماعاد لي طاقة بها ، علما بأنها كانت جزءا من تخصصي الاول ، ولكن كذلك الفلسفة تساعد علي التأمل وتقوية الروح النقدية ، ومهما يكن ، الآن تجلس علي المنضدة 7 كتب تنتظر القراءة ليس بينها كتاب فلسفة أولها كتاب أستاذنا الأستاذ يوسف فضل حسن ، وهو آخر اصداراته ، ويحتوي علي ست مقالات سبق نشرها في الدوريات والمجلات والصحف ، ولكن فرق بين ماينشر في الصحف حيث يصعب جمعه أو الانتباه له وبين مايصدر في كتاب بعد التمحيص والتدقيق والتوثيق ، ومما يلفت النظر مقالته عن الشيخ أحمد بابا ودوره في كتابة التاريخ الإفريقي وولد أحمد بابا في تمبكتو التي زرتها أبان زيارة الرئيس القذافي كما قيل نحو ثلاثة أعوام ، حرصت علي زيارة منزله ومدرسته ، حيث ماتزال آثارهما باقية . يقول بروفيسور يوسف عن أحمد بابا “ كتب أحمد بابا التمبكتي اضافة للتاريخ ، في الفقه واللغة العربية والتراجم ، وقد بلغت مؤلفاته مايزيد عن الأربعين مؤلفا ، وقيل أن مانهب منه في محنة الغزو المغربي لتمبكتو بلغ ألفا وستمائة مجلدا . ليس من غرض المقالة ، مناقشة مصداقية هذا الزعم ، ولكن الإشارة للخدمات المتبادلة بين علماء إفريقيا والثقافة الإسلامية وكيف شكلت الثقافة الإسلامية ، علماء في القارة السوداء علي قامة أحمد بابا وعثمان دان فودي وعمر الفوتي .. الخ، ومع ذلك حينما يتم الاحتفال بيوم الكاتب الإفريقي ، تتذكر الذاكرة الإفريقية ابناء المرحلة الاستعمارية امثال سنغور السنغالي وسوينكا النيجري وشنوا أجيبي صاحب كتاب “حينما تبعثرت الأشياء” لأنهم حسبوا أن الكتابة بافريقيا بدأت مع الاستعمار والحرف اللاتيني وماعرفوا أن العربية هي لغة القراءة والكتابة في إفريقيا وانها هي التي ورثت مجد الهيروغلوفية والمروية والقبطية والجعزية، ولكن الاستلاب الثقافي والانهزامية هي التي تحجب هذه المعاني . والكتاب الثاني ، الذي يربض علي منضدتي هو كتاب الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ، بقلم الدكتور يوسف خليفة ومن اصدارات دار المعارف بمصر ، وبدأت اهتماماتي بشعر الصعاليك ايام الدراسة ، وأول ماسمعت بهذا المصطلح من استاذنا طيب الذكر الأستاذ المرحوم عون الشريف قاسم والذي كان يدرسنا هذه المادة ، وكنت مستغربا حينها أن تخصص الكلية استاذا لتدريس مادة تتصل بالصعاليك ، لأن الصعلوك في قاموسي هو الشخص المستهتر الذي لا وزن له والذي يأتي من الأعمال ماينافي الحياء ، وكثيرا ما قاطعت الاستاذ عون في المحاضرة علي تعريفاته ، إلي أن عرفت المعني الاجتماعي لهذه الطبقة المبدعة وان ابداعهم اتصل بمشكلة الفقر والغني وحلولهم لهذه المشكلة بتمرد المستضعفين والمضطهدين علي الأغنياء المتخمين لتحقيق العدالة والتوازن الاجتماعي وكثيرا ما أردد دون وعي مني قول عروة بن الورد مخاطبا محبوبته : ذريني أطوّف في البلاد لعلني أخليك أو أغنيك عن سوء محضر وكان عروة صاحب شهامة وعرف اصحابه من الصعاليك في عروة هذه النفس الإنسانية القوية ، فكانوا إذا أصابتهم السنة أتوه ( فجلسوا أمام بيته حتي إذا بصروا به صرخوا وقالوا : يا أبا الصعاليك أغثنا ) فيخرج ليغزوا بهم . ولا أدري هل ثوار السودان الذين يشكون التهميش وقلة الحيلة علي هذه الشاكلة ، لاننا لم نر منهم ابداعا باستثناء قعقعة السلاح والذي يأكل المساكين والفقراء علي تخوم الدولة وإن كانوا من جند الحكومة . وكثيرا ما يلومني البعض علي نحت مصطلح الحزام الاسود حول العاصمة ، والمقصود ليس الايحاء العنصري ، بأن الزرقة أو السودان يحيطون باولاد العرب ، لأن كثير من مكونات حزام البؤس والحرمان حول العاصمة من أولاد حامد والقبائل العربية ولكن المقصود أنه حزام من المستضعفين الفارين من الهامش إلي الهامش ، عسي أن تتضافر الجهود لدمجهم ماديا وروحيا وفكريا في المدينة حتي تصبح المدينة كلها وسطاً بمعني اندياح غير التمدن من تواصل وإتصال وكهرباء وماء وطرق ومدارس علي الجميع . والكتاب الثالث الذي ينتظر التصفح ، هو أوراق ندوة من مطبوعات اكاديمية المملكة المغربية بعنوان وماذا لو أخفقت عملية السلام في الشرق الأوسط ؟ ومع أن هذه الدورة عقدت قبل عشر سنوات إلي أن موضوعها مايزال حياً في محاولات الانقاذ لعملية السلام التي تجري في انابولس في الولاياتالمتحدة . ومايبدو لي أن عملية السلام شبعت فشلا .؟ ولكن ماهوالبديل ، هل هي الحرب ؟ ومن سيحارب؟ والكثيرون في هذه اللحظة يهرولون تجاه اسرائيل يبدو لي أن النظام الرسمي العربي كذلك يشعر بالاعياء والانهاك والتعب ويريد أن يتخلص من عبء القضية الفلسطينية فيصفيها ويرتاح منها بالدفنة الأخيرة ولكن ربما كانت دفنة القضية الفلسطينية انتحاراً جماعياً عربياً ، لأن هذه القضية جاثمة ورابضة في الحرف العربي والثقافة الإسلامية والتاريخ وقبل ذلك في القرآن الكريم والدفنة لن تكون ساهلة بل من يدفن من ؟ وفي المرة القادمة نواصل .