عندما عاودت صحيفة الرأي العام الصدور في 15 سبتمبر 1996م عبرت عن فرحتي بهذه العودة بكتابة استراحة في الصفحة الأخيرة للاشارة الى انها الصحيفة التي ادخلتني الى حقل الصحافة. ففي العام 1969م وكنت حينها في المرحلة الوسطى واساعد المرحوم والدي في متجره بسوق كريمة، كافأني ذات خميس وهو (يوم سوق) بمبلغ (ريال كامل) كي اشتري ما تشتهيه نفسي مشروباً او مأكولاً، ولكني ذهبت الى مكتبة (ضرغام محمد عبدالغني)، فأشتريت رواية مصرية لا اتذكر مؤلفها وصحيفة (الرأي العام) وادخرت ما تبقى من الريال. لم احس برضا والدي لما اقتنيت، اذ كان يتوقع ان ارشف زجاجة ليمونادة او اتناول قطعاً من الحلويات. وكانت الصحيفة عنده واقرانه مرتبطة بالسياسة والرياضة، وكلاهما يصرف التلاميذ عن القراءة النظامية والاستذكار. صحيفة (الرأي العام) التي اصدرها الاستاذ اسماعيل العتباني في 15 مارس 1945م كان لها وقعها وفعلها في الحركة الوطنية السودانية ليس لشخص الاستاذ اسماعيل العتباني فحسب، الذي كان من مؤسسي حركة الخريجين منتصف ثلاثينات القرن الماضي وانما لتفردها ومعرفتها للفنون الصحفية الجميلة قبل الكثير من الصحف التي صدرت حينها فعلى صدر صفحات (الرأي العام) كانت الأخبار والتقارير الصحفية وأخبار المراسلين من اصقاع السودان المختلفة وكانت الحوارات والتحقيقات والمقابلات والأعمدة والكاريكاتير والرأي فيها كان قوياً فلا غرو ان استكتبت علماء في قامة الدكتور مكي شبيكة. وكانت تحاول اشباع نهم قراء تلك الفترة فمدتهم بالأخبار المهمة من رويترز ووكالات الأنباء الدولية الأخرى والاقليمية. وصحيفة (الرأي العام) قبل التأميم كانت مدرسة صحفية تعلم فيها اساطين الصحافة السودانية الذين ما زالوا يقدمون للصحافة العربية والسودانية ومنهم من انتقل الى جوار ربه بعد ان ارضى نفسه ورضيت عنه مهنته. أذكر في منتصف التسعينات أدرت حواراً من خلال ندوات تلفزيونية حول حرية الاعلام كان ضيوفها الأستاذ اسماعيل العتباني والأستاذ المرحوم بشير محمد سعيد والأستاذ المرحوم فضل بشير والدكتور كمال عثمان صالح والدكتور أمين حسن عمر والأستاذ النجيب قمرالدين. فقدم لنا الأستاذ العتباني دروساً بليغة في اخلاقيات الصحافة التي كانت تلتزم بها صحيفة (الرأي العام) في تعاملها الصحفي، راوياً قصة الصحفي الذي رفض عرض احدى السفارات لكي يعالج في بلدها. وحكاية الصحيفة التي غرمتها المحكمة فدفع عنها قراؤها الغرامة وغيرها الكثير مما رواه الاستاذ العتباني عن (الرأي العام) وصحف ذلك الزمان، ونحن احوج لهذه الاخلاقيات والتقاليد اليوم اكثر من الأمس. ساءلت نفسي كثيراً ومن المؤكد تساءل كثيرون لماذا لم تصدر صحيفة (الرأي العام) بعد ثورة رجب وزوال حكم مايو ووجدت الاجابة بعد مرور عشرين عاماً حيث طالعت طلباً في 28/5/1985م للأستاذ اسماعيل العتباني لرئيس لجنة الصحافة والمطبوعات حينها للموافقة على استئناف صحيفة (الرأي العام) المستقلة الصدور. ولما لم يأته الرد بالموافقة كتب طلباً آخر في 25/6/1985م يطمئن فيه رئيس اللجنة انه لا نية له في المطالبة بأي من متعلقاتها كنتيجة لقرار المصادرة والتأميم في العام 1971م ويريد فقط التصديق باستئناف الصدور. وفي 15/7/1985م خاطب الأستاذ اسماعيل العتباني وزير الثقافة والاعلام معاتباً وجاء في صدر خطابه (كنت أرجو بعد نجاح الانتفاضة ان تتولى الحكومة الوطنية المؤقتة ازالة الظلم الفادح الذي لحق بالصحف العريقة نم جراء التأميم الجائر لنتمكن من معاودة الصدور ونشد من أزر الحكومة الوطنية لترسيخ قواعد الديمقراطية وتعبيد الطريق امام الاستقلال الأمني والاقتصادي). ويواصل الأستاذ العتباني، (ان الحكومة فوتت على الصحف الوطنية فرصة الظهور في الوقت المناسب بل في أدق الظروف التي كانت الحكومة الوطنية في أشد الحاجة الى العودة من صحف متمرسة عرفت كيف تتعامل مع الشعب في افراحه واتراحه وللأسف لم تفلح الاتصالات الشخصية لتنبيه المسؤولين لهذا الأمر الخطير بل تمادت الجهات المسؤولة في اهمال جريدة مثل الرأي العام التي صدرت في مارس من العام 1945م وحملت الراية قبل وبعد الاستقلال وكانت اول جريدة يومية مستقلة تصدر في السودان الحديث. اهملت الرأي العام عندما قامت السلطات بالتصديق لعشرات الصحف الجديدة التي تطرق ابواب الحياة العامة لأول مرة التي يملكها الأفراد والجماعات والأحزاب، وأخيراً جداً عندما سمح ل (الرأي العام) بالصدور وطولبت بدفع سبعة آلاف جنيه لاستلام الرخصة وكأنها كانت تصدر طوال ربع قرن من الزمان بدون رخصة او تصديق ولم يشفع جهادها الطويل ان تتميز عن صحف تصدر لاول مرة). انتهى حديث الاستاذ العتباني. وعتابه لوزير الثقافة والاعلام صادف تولي الدكتور مأمون سنادة الوزارة فعلق على الطلب بالعبارات التالية: (توصيتي بأن تتخذ الخطوات المناسبة لاعادة الرأي العام دون شروط لانها تختلف عن الصحف الأخرى التي لم يكن لها ماض في الحركة الوطنية مثل الرأي العام وصاحبها المعلم الأستاذ اسماعيل العتباني). وشفع ذلك بخطاب اعتذار للاستاذ العتباني وبعدها تم تسليم التصديق بإعادة الصدور في 18/10/1987م الا انه يبدو ان ظروفاً موضوعية لم تمكنه من الصدور حتى جاءت الانقاذ في 30 يونيو 1989م. وصحيفة (الرأي العام) عندما عادت منتصف التسعينات استمرت على ذات النهج رغم تعاقب عدد من الأساتذة على رئاسة وادارة تحريرها مثل الدكتور صلاح محمد ابراهيم والاستاذ ابوبكر وزيري وعبدالله عبيد والبدوي يوسف وادريس حسن واسماعيل آدم وكمال حسن بخيت ومحمد عبد القادر وضياء الدين بلال، الا انها ظلت تلك المدرسة للتعليم المفتوح في مجال الصحافة والرأي. ولأني لا أدعى تخرجي في مدرسة الرأي العام، ولكني انتسب اليها منذ طفولتي وها أنذا أتشرف بالكتابة الراتبة فيها، واتطلع دائماً الى (الرأي العام)، المؤسسة الصحفية التي تصدر المجلة الاسبوعية والمجلة الشهرية والكتاب الدوري والفصليات والحوليات ومركز الدراسات والبحوث ومعهد التدريب الصحفي والطباعي، بعد أن نجحت في أصدار صحيفتها الإجتماعية اليومية الناجحة (حكايات)، لم لا و(الرأي العام) تجاوزت مرحلة النضج؟! هنيئاً لصحيفة (الرأي العام) بهذا التاريخ الحافل بالوطنية والمهنية والتميز والتفرد.