فى كل البلدان يكون سلاح الإضراب عملا مبررا أخلاقيا لانه يأتى على خلفية مطالب مشروعة ومجردة وموضوعية لايكو هناك خلاف حولها. وغالبا ما تكون المطالب مهنية وعادلة. غير أن المعارضة السياسية المأزومة فى السودان يبدو أنها قد أضافت الى سجل التاريخ البشرى تجربة جديدة: وهى محاولة إستغلال "الإضرابات" الفئوية والرهان عليها لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه عقودا طويلة. عقب إجتماع بالقصر الجمهورى بالأمس الخميس مع نائب رئيس الجمهورية حسبو محمد عبدالرحمن بحضور وزير الصحة الاتحادى ووزيرة الدولة بالوزارة ورئيس اتحاد الأطباء ورئيس المجلس الطبى ورؤساء الجمعيات الطبية وممثلى النواب، تقرر رفع الإضراب الجزئى بصورة رسمية. وأكد النائب حماية الدولة للاطباء والكوادر الصحية وتحسين بيئة العمل كاشفا عن زيادة الميزانية المخصصة للنظام الصحى بنسبة 28 % ووجه بتنفيذ كافة المطالب المشروعة ال نادى بها الأطباء المضربون. إضراب جزئى شمل الإضراب خمس مستسفيات بثمانية ولايات فقط، بينما كان الوضع بكافة مؤسسات القطاع الصحى بالبلاد هادئا عموما، حيث نجحت كوادر وطنية فى التغلب على الآثار التى تسبب فيها الإضراب الجزئى. وأعلن الأطباء الذين شاركوا فى الإضراب عدة مطالب منها: توفير بعض الإحتياجات الطبية وتحسين بيئة العمل وتوفير الحماية اللازمة للمستشفيات أستمر زخم الحديث عن الإضراب طوال الإسبوعين الماضيين. ولكن ما لبث الأمر –كما اوضحنا سابقا- أن تم رفع الإضراب الجزئى بجهود إتحاد أطباء السودان، والجمعية الطبية السودانية و كبار الإستشاريين. وبذلك طويت صفحة من محاولات تسييس مؤسسات العمل العام الحساسة وجر فئة الأطباء من الحقل الإنسانى الى مستنقع السياسة والنتيجة فيما لو نحج هذا المخطط هو الإضرار بمصالح المواطنين والمخاطرة بارواحهم. موارد أكبر لاينكر أى مكابر وجود نقص كبير فى الخدمات العامة لاسيما الخدمات الصحية ولهذا النقض عوامل عديدة ليس من بينها مزاعم المعارضة وخيالات المعارضين، فالقطاع الصحى يبدو انه بحاجة لمواكبة الزيادة المضطردة فى السكان من جهة، وتوسع المناطق الحضرية فى البلاد التى تحتاج للتغطية بالخدمات الصحية، وكل ذلك يحتاج الى أكبر تخصيص للموارد. والى جانب وجود معدلات هجرة إقتصادية وسط شريحة الأطباء بحثا عن فرص عمل أفضل لاسيما وأن المنافسة فى سوق العمل فى البلاد تضيق مع الزيادة فى أعداد المتخرجين من كليات الطب سنويا مما نعكس عىل مستوى جودة الأداء وبعض النقص الذى تبتكر الوزارة سبل متعددة للتغلب عليه. تجاذات سياسية يبدو للانسان الذى يتابع الكم المهول من الدعاية والترويج فى وسائل التواصل الاجتماعى الذى ظلت تقوم به المعارضة لكأن الإضراب المحدود الذى قامت به فئات صغيرة من الأطباء بالمستشفيات العامة قد نجح وإنتقل-كما يراهن هؤلاء- الى فئات او مؤسسات أخرى لتكون بذلك الحكومة قد سقطت فيتحقق لهم ما يصبون اليه؟! وما إن لاحت بوادر نجاح الجهود التى قام بها وطنيون مخلصون لإبعاد الصحة من التجاذبات السياسية حتى دب الإنقسام وسط المعارضة: بعضهم دعا الى الإستمرار فى الإضراب الجزئى والبعض الآخر دعا لتوسيعه ليشمل قطاعات أخرى، وقال آخرون برفض التهدئة والحوار مع أجهزة لدولة، ورفع سقف المطالب لتعجيز الحكومة. إن هذه المواقف التى تصدر من بعض المنتمين للأطباء لهى أكبر دليل على مدى تسييس الإضراب المزعوم. ولكن برفع الأضراب كما اعنلت عنه بالأمس واجهات ومؤسسات وطنية بذلك تكون المعارضة قد خسرت آخر رهاناتها. تعبئة مضادة مع تزايد الدعوات المحمومة لتوسيع نطاق الإضراب المحدود الذى قامت به فئات من الأطباء ليشمل كافة المستشفيات العامة وإلباسه لبوس المطالب العدالة، أنخرطت فى المقابل عدة جهات وواجهات وطنية لتعبئة مضادة للكوادر الطبية لسد النقص والقيام بالواجب المهنى من منطللق المسئولية الوطنية والأخلاقية، إذ لا يمكن ان تكون مهن –كالطب مثلا- ميدانا للمزايدات السياسية الرخيصة على النحو الذى قامت به المعارضة. وتحقق كسر الإضراب وسد الطريق أمام المعارضة عبر عدة إستراتيجيات قامت بها الواجهات الوطنية منها: ملء اى شغور قد يحدث من قبل بعض الأطباء الذين يتعاطفون مع دعوات الإضراب الجزئئ والمحافظة على إستمرار العمل بمؤسسات القطاع الصحى. ثانيا، التفرييق بين المطالب العادلة والموضوعية والمهنية وسط الأطباء والمطالب التعجيزية ذات الطبيعة السياسية الفاضحة. ثالثا، إبعاد الدخلاء على القطاع الصحى والتمييز بين المنتمين لخذا لقطاع والملتزمين باخلاقياته وقيمة واولئك الذين ينفذون أجندة آخرين. رابعا، الإمساك بزمام المبادرة تفويت الفرصة على المتربصين. ضعف إعلامى إن أكثر من لفت النظار فى تجربة التى ارستها المعارضة السودانية فى مجالات الإضراب، هو ضعف التعاطى الإعلامى مع هذا التحرك وإفتقاده اى زخم إعلامى، ومن المفارقات أن الإعلام الخارجى كان أكثر إدراكا لمحدودة وضعف تأثر الإعلان عن الإضراب، لذلك لم تتحمس القنوات والفضائات الكبيرة والمؤثرة لمتابعته وأفردت له تغطية عادية وعابرة. كما لم تنحج بعض وسائل الاعلام فى تضخيم الإضراب المحدود لبعض الأطباء المحسوبين على المعارضة العاجزة، وأقتصر أى مفعول حقيقى للإضراب فى وسائل التواصل الاجتماعى خاصة قروبات الواتساب. وهدفت قوى المعارضة من وراء الدفع بثقلها وراء الإضراب الجزئى فى بعض المستشفيات للتشويش على ختام فعاليات الحوار الوطنى التى جرت فى العاشر من اكتوبر الجارى، ولكن خاب هذا المسعى.