شاهدتُ قبيل أيام حلقة كُرم فيها فريق برنامج ( أغاني و أغاني) الذي قدمه الشاعر والمسرحي الكبير الأستاذ السر أحمد قدور، وكنتُ قد شاهدتُ حلقة من البرنامج، في أيام عيد الفطر المبارك الماضي، ولعلها كانت تلك هي الحلقة الأخيرة من سلسلة حلقات البرنامج، الذي علمتُ أنه كان يُقدم في كل شهر رمضان على مدى سنوات. وكانت هي الحلقة الأولى بالنسبة إليَّ ؛ التي اشاهدها منه ، وبالطبع لا يجوز لي إصدارُ حكم عليه وأنا لم اشاهد حلقاته؛ و لو حدث ذلك منى لكان حكماً ظالماً سواء كان للبرنامج أو عليه. لقد أحسن الاستاذ السر باختياره شبابا يتغنون بالألحان الجميلة التي شهدتها السنون الماضية، حيث كانت ساحة الغناء في تلك السنين غير متاحة إلا للذين يمرون عبر لجان تمحِّص قدراتهم ؛ أصواتا وألحاناً وأداءً ، ولم تكن ساحةً متاحة لمثل ما تعج به ساحة الغناء اليوم؛ بأصواتٍ كثيرٌ منها يتفاوت شبهاً ما بين اصوات البطِّ والمعيز. بل وجدتُ كثيراً من اصحاب هذه الاصوات ، يتجنون على أغنيات ذات ألحان جميلة؛ ألِفها الناسُ وارتبطت بأسماعهم وعواطفهم، فأخرجوها من ثوبها المألوف، وغيروا وبدلوا فيها، فانكرها من ألفها من قبل؛ ولم يألفها من سمعها لأول مرة ، لأن مغنيها الجدد عمدوا إلى الخروج بها من سلم التطريب المعروف إلى شيء آخر منفر. و لا أنسى أنني سمعتُ عند أحد الإخوة تسجيلا بأداء بشع لأغنيتي ( عازة في هواك) و ( في الضواحي وطرف المدين) ولعل هذا ومثله من العبث المسموع، ما جعل الاستاذ السر يفرد حيزاً كبيراً يوم تكريم البرنامج ؛ للحديث عن أهمية الأداء وتجويده، ولعل ذلك هو الذي جعله يجمع تلك الكوكبة من شباب المغنين ليؤدوا تلك الاغاني كما كانت تؤدى من قبل ، وحسناً فعل.
مما يعمد إليه كثيرٌ من أصحاب تلك الاصوات، في تجنيهم على جميل الغناء؛ بأدائهم له بطرقهم الجديدة الغريبة؛ ظناً منهم انهم يطورونه، فإنهم عندما يغنون، يخرجون من حناجرهم نصف أصواتهم، على علتها، والذي يخرجونه لنا يرجِّفونه لكي يكون شبيها بأصوات الخواجات ، ظناً منهم أن ما يفعلونه هو التطويرُ والتقدمُ اللذان يجعلان الاغناني السودانية ذات طابع يحملها (للعالمية) . فليتهم تركوا الغناء الأصيل على أصله، و إن اصروا على الغناء أتوا لنا بجديد، ممعن في (التقدمية ) يصكون به آذاننا صك الجندل ،
-2- أو ليتهم أحسنوا لنا فصمتوا صمت القبور. وكأني بهؤلاء المغنين يقولون لنا إن قديمكم في الغناء بسلُّمه القديم، يحتاج إلى تجديد نأتيكم به نحن، وما عليكم إلا أن تلبسوا ثوب التقدمية لتتذوقوه، وهم ينطبق عليهم قول أمير الشعراء شوقي عليه رحمة الله: لا تحذُ حذوَ عصابة مفتونةٍ يجدون كل قديم شيءٍ منكرا ولواستطاعوا في المجامع انكروا من مات من آبائهم أو عمرا من كل ماض في القديم وهدمه و إذا تقدم للبناية قصرا وأتى الحضارة بالصناعة رثة والعلم نذراً والبيان مثرثرا أعود إلى برنامح الأستاذ السر أحمد قدور، ففي الحلقة التي سمعتها أيام العيد، غنت ( منار) على ما أذكر الاسم، أغنية لعائشة الفلاتية عليها رحمة الله التي تقول كلماتها: لو غريب عني أو قريب منى أنا أهواك و انت عارفني و هي من الاغنيات التي سمعتها أيام الصبا، من جملة الإغنيات التي ما زلت أذكرها، وأذكر تلك الايام التي سمعتُها فيها ، لتلك المغنية التي وهبها الله سبحانة وتعالى صوتا ندياً جميلاً، لم يؤثر فيه تقدم عمرها إلا قليلا. ولقد غنت منار تلك الاغنية بصوت صافٍ جميل ندي، و بأداء رائع، فأرجو ألا تصيبها عدوى (التقدمية) في الغناء ، كما أصابت كثيرين آخرين. التقيتُ بعائشة الفلاتية عليها رحمة الله لأول مرة عندما التحقتُ بالاذاعة مذيعاً، وكانت كلما قابلتني إن حييتها ردت علي بقولها ( أهلا بالمذيع الجديد) وأن حيتني هي أولاً قالت لي( إزيك يا المذيع الجديد) وظللتُ مذيعاً جديداً عندها حتى بعد مرور سنوات على التحاقي بالاذاعة عليها رحمة الله ، و أمد في عمر الاستاذ السر أحمد قدور، ومتعه بالصحة والعافية. و لي عودة إن شاء الله إلى الحديث عن غنائنا الذي بات ميداناً للعبث، وما أكثر العابثين به هذه الايام، وما اكثر الوسائل التي تعينهم على عبثهم ذاك وتشجعهم عليه.