في لهجتنا السودانية مفردات نستخدمها في اليوم مرات كثيرة ولو توقفنا عندها لضحكنا ملء أفواهنا من غرابة استخدامنا لها، لن أتوسع كثيراً ولكن سأذكر كلمتين هما (الليلة) و(ساكت)، كلمتان لو سمعهما الخليل بن احمد ونحن نستخدمهما على الطريقة السودانية لمات ساكتاً من ليلته ولما احتاج أن يموت وفي نفسه شيء من حتى. ففي صباح جمعة وقف بي (مؤشر التصفح) - واقبلوا هذا المصطلح كترجمة لما يسمى بالريموت كنترول- وقف بي عند برنامج الأطفال في القناة السودانية الأم، واسترعى انتباهي أن مذيعة البرنامج وهي طفلة متحمسة أعلنت أنها ستقدم (الليلة) كذا وكذا وأخذت تعدد فقرات برنامجها، وأنها ستبدأ بالفقرة الأولى الآن، عند قولها الآن تلفت حولي باحثاً عن الليل الذي بشرتني به قبل قليل، فأنا وحسب هذا التقديم من المفترض أنني نائم في غيهبه، غيهب الليل الحلوك الذي أطربنا بذكره الفنان خضر بشير، وكان هذا أول الاحتمالات، أما ثانيها فهو أن ليلي صار مثل ليل ليلى وانه جن ويجب على أن أكون متأوهاً في جوفه ولا أكف عن الأنين وليس من المتفرجين على برنامج الأطفال صباح الجمعة، وثالث الاحتمالات أن ليلي قد طال كما طال ليل امرئ القيس، وعلي أن أطالبه بالانجلاء بصبح حتى ولو لم يكن الإصباح بأمثل، أو أنضم إلى النعام آدم وأبكي من ليلي مثله إذ أن ليله كان طويل طولا يجنن، غير أن كل هذه الاحتمالات تبخرت فالصباح قد بدا حقيقة واقعة عندما قمت بفتح النافذة وهل تنكر العين ضوء الشمس من رمد؟ لم تمر فترة طويلة على تيقني من أن الصباح الجديد قد أطل إلا وجرس (الجوال) يرن واحد الأصدقاء يدعوني للغداء (الليلة) ، سألته: - أي غداء هذا الذي ستتناولونه ليلاً أيها الشعب السوداني الكريم أو لم يكفكم النهار؟ فرد مستفسراً: - نعم؟ قلت له : أغداء هو أم عشاء أم أنه كوكتيل حفلة شاي بين بين؟ ولما بدأ الاستياء يسري إليه من هذه الأسئلة الغريبة ألقيت باللوم على الشبكة وأنني لم اسمعه جيداً وأكدت حضوري لتناول الغداء (الليلة). في خضم الجدل الدائر بعد الغداء حول الهلال والمريخ قال أحدهم موبخاً آخر كان يناكفه : - إنت بتتكلم ساكت وسرعان حدثت حالة تأهب عندي واستنفار قصوى فتدخلت في الحديث متسائلاً: - يتكلم ساكت؟ ظنوا أني مناصر لفريق ضد الآخر، مع أن الهلال والمريخ عندي ينطبق عليهما المثل الذي يقول: (كله عند العرب صابون)، ووجه إدخال الصابون في الموضوع أن الفريقين لا يزحلقهما صابون العرب وحده من البطولات، بل وانضم إليه صابون الأفارقة وتدهور الحال فأصبحت (بروة) تكفى لزحلقة المسكينين ومعهما الفريق القومي بكامل عدته وعتاده. لا أريد أن أتكلم كلام ساكت عن الرياضة فلها محللوها ولها معلقوها الذين يعلقونها من ساقيها، مع أن أكثرهم مثلي يتكلم الكلام الساكت بلا رقيب ولا حسيب. وقد حاولت تفسير كيفية أن يتكلم الإنسان وهو ساكت فلم أجد لها تفسيراً مقنعاً ومر بخاطري ما كان يسمى (بالإجماع السكوتي) فربما وجدت ضالتي فيه، ولكنه لم يقدم لي التفسير المناسب إذ أنه يشير إلى هز الرأس بنعم قفلاً لأبواب الإغراق في الثرثرة وتخفيفاً لوجع الراس، قلت ربما كان الكلام الساكت هو (لغة العيون) التي قيل إنها أحلى الكلام كما بشرنا بذلك طائفة من الشعراء، أو ربما كان الكلام الساكت ما قاله الشاعر محمود أبو بكر شاعر صه يا كنار حين أنشد: إن يكون صمتي رهيباً.... إن في الصمت كلاما فهو يشير إلى سكوت وصمت فيه كلام، لكن كل هذا لم يقدم الحل لمشكلة هذا التعبير المعقد، فالكلام الساكت لا يشير إلى تلك المعاني الجميلة ولا يتطرق إليها بل يشير إلى معان من النوع الذي يدخل ضمن ما يسمى بكلام الطير في الباقير، أو لغة الخارم بارم، أو ربما يشير المصطلح إلى وعود الساسة فأغلبها يندرج تحت هذا البند. ولما لم أجد التفسير المناسب سألت نفسي هل تكلمت الليلة في هذا الموضوع كلاماً ساكتاً؟.