من المعروف أن العلاقات السودانية الأمريكية طابعها التباعد وعدم التوافق في كثير من الأمور، وهذا انعكس على مواقفها من الحكومة حيال قضية دارفور التي وجدت اهتماماً خاصاً من الإدارة الأمريكية، وجاءت قراراتها انطباعية وفق نظرة محددة مبنية على أسس ومعلومات غير حقيقية، اعتمدت على معايير تخدم اتجاهات صانعي القرار في الدوائر الأمريكية التي دائماً تجد مسوغات ومبررات تقنع بها المجتمع الدولي لتغليف سياساتها العدائية تجاه الحكومة، ونشطت في تدويل وتضخيم الأحداث في دارفور تحت مظلة التزامها الأخلاقي تجاه الشعوب المقهورة والمغلوب على أمرها. وعلى هذا الأساس اتخذت الولاياتالمتحدة منذ بداية الصراع الدارفوري موقفاً عدائياً بدا واضحاً تجاه الحكومة السودانية. وتمثلت هذه المواقف في جملة الإدانات والعقوبات والحملات الدعائية التحريضية التي نفذتها الإدارة الأمريكية في هذا الشأن، وسخرت لها إمكانيات ضخمة لترويجها، فكان للأمريكان نصيب وافر وراء تدويل قضية دارفور وإبرازها على جدول أعمال الأممالمتحدة واعطائها مساحات واسعة خلال فترة قليلة. وأصبح الصراع الدارفوري معروف لدى العديد من دول العالم على أنه صراع عرقي وإبادة جماعية كما رأت وأرادت أمريكا. كما دفع الأمريكيون بقوة تجاه إحالة ملف دارفور للمحكمة الجنائية الدولية. بعد كل هذه المواقف السلبية جاء اعتراف واشنطن بتحسن الأوضاع الأمنية بدارفور وإقرارها بذلك مؤخراً على لسان مبعوثها الخاص دان سميث مستشار الإدارة الأمريكية، الذي يزور ولايات دارفور حالياً على رأس وفد رفيع يضم مسؤولة المعونة الأمريكية كريستينا بازلو، حيث أشاد دان سميث بالأمن والاستقرار الذي لمسه هذه المرة خلال زيارته لولاية جنوب دارفور، مطالباً بالحفاظ على هذا المتسوى حتى يسهم في تنفيذ البرامج والمشروعات. ودعا جميع أطراف النزاع بدارفور بإبداء حسن النية والمرونة في المفاوضات للإسهام في جذب الآخرين للعملية السلمية خاصة وأن المجتمع الدولي يرغب في انضمام كافة الأطراف لسلام الدوحة. وأبدت مسؤولة المعونة الأمريكية رغبتها في التحول من مرحلة المساعدات الإنسانية إلى دعم مشاريع التنمية والإعمار في ظل حالة الاستقرار الأمني الذي تشهده الولاية. ويقول الدكتور أمين حسن عمر مسؤول مكتب متابعة وتنفيذ اتفاق سلام دارفور برئاسة الجمهورية للمركز السوداني للخدمات الصحفية أن أي ملاحظة خاصة من أمريكا تؤكد فيها تحسن الأوضاع بدارفور تعتبر إشارة لبناء السلام ودفعة قوية تجاه إنفاذ اتفاق الدوحة على أرض الواقع بصورة مباشرة، معتبراً أن هذا الاعتراف من واشنطن بتحسن الوضع الأمني بدارفور مكسب في كل الأحوال وجاء في وقته المناسب، خاصة وأن هنالك رغبة قوية من أهل دارفور في الاستقرار واستدامة السلام، مشيراً إلى أن تحسن الأوضاع الأمنية بدارفور اثبتته تقارير رسمية صادرة من الاتحاد الأفريقي وبعثة اليوناميد مدعومة بأرقام وحقائق. وحول تأثيرات هذا الموقف الذي بدا ايجابياً هذه المرة من الإدارة الأمريكية على القرار 2003 الخاص بشأن تطوير مهمة اليوناميد بدارفور وإدخال بعض التعديلات على وضعيتها، أكد أمين حسن عمر على أنهم يتعاملون مع بعثة اليوناميد بموجب القرار 1769، مشيراً إلى أن هذا هو الموقف الرسمي من الحكومة الذي أبلغت به الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي بقبولها لتمديد فترة اليوناميد دون السعي لإدخال أي تعديلات في تكوينها الأساسي الذي أتت به. أما الدكتور فردوس عبد النعيم الناطق الرسمي باسم حكومة ولاية غرب دارفور اعتبرت أن إقرار أمريكا بتحسن الوضع الأمني بدارفور ليس بالشيء الجديد ولن يشكل أي إضافة حقيقية لتعامل أمريكا مع ملف دارفور على وجه الخصوص. موضحة أن هذه التصريحات مستقاة من تقارير الجهات المختصة داخل حكومات الولايات الثلاث واصفة التصريحات بالسياسية فقط، وأكدت عودة الاستقرار الأمني بدارفور من خلال واقع ملموس يشير إلى انخفاض معدل البلاغات الجنائية خلال الأعوام الأخيرة وانحسار نشاط الحركات المسلحة في أضيق مستوياته، وأكدت أن المبعوث الأمريكي عندما أطلق هذه التصريحات له ما وراءه حيث يجب على الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي الإيفاء بالتزاماتهم تجاه قضايا السلام بالسودان، والضغط على الحركات المتمردة للانصياع للسلام، وإقناع حكومة الجنوب بإبعاد مسلحي دارفور عن أراضيها. وأضافت: أننا لا نعول كثيراً على اعترافات واشنطن سواء كانت سلبية أو ايجابية وذلك من واقع التقلب والتذبذب في أمزجتها وقراراتها كما عودتنا دائماً. الدكتور خالد حسين مدير مركز السودان للدراسات الإستراتيجية تطابقت وجهة نظره مع الدكتور فردوس عبد النعيم في أن هذه التصريحات وإن جاءت ايجابية من مبعوث أوباما الخاص لكنها لن تغير في مسار العلاقات السودانية الأمريكية ابداً، باعتبار أن أمريكا عبارة عن مجموعة من الواجهات التي تتعامل مع السودان، والمجموعة المتطرفة والمتشددة التي تمثل الكونغرس واللوبي الصهيوني هي الواجهة الرسمية للإدارة الأمريكية ذات الاتجاهات المتشددة والمتعصبة حيال بعض الدول العربية والأفريقية، لافتاً إلى أن هذا التعبير لم يخرج من وزارة الخارجية الأمريكية لذلك مهما كان إيجابياً لن يتعدى مستوى التصريحات العادية أو كونه ردة فعل لا تتحول لفعل. وأكد دكتور خالد أن هذا التعبير لن يكون له حراك واقعي على الأرض، لأن هناك جهات مؤثرة أخرى داخل الإدارة الأمريكية ترغب في بقاء الوضع على ما هو عليه. وعلى هذا النحو الذي جاء فيه الأراء مختلفة ومتباينة إزاء سياسة الإدارة الأمريكية التي كرست جهدها للدفع بقضية دارفور على طريق التدويل، وبالفعل نجحت في ذلك مستخدمة إمكانياتها ووسائلها الإعلامية، مما دعا منظمات غربية السعي بإلحاح شديد لإنزال أقسى العقوبات على الحكومة السودانية، وعلى رأس هذه المنظمات تحالف (أنقذوا دارفور) الذي يضم ما يزيد عن المائة وخمسين منظمة أمريكية، ويحمّل هذا التحالف الحكومة مسؤولية ما يجري في دارفور واتهمها بإنتهاج سياسة الإبادة الجماعية في حق من ينتمون إلى الأصول الأفريقية .وقد نظم هذا التحالف العديد من التظاهرات في المدن الأمريكية لنشر برنامجه التحريضي ضد الحكومة، ونجد أن كتابات وتصريحات كبار مؤسسي التحالف أمثال ميد ميدلتون ولورانس روسين وإيرك ديفيد تدعو لتدخل المجتمع الدولي في دارفور بكل الوسائل لإيقاف ما أطلقوا عليه بالمأساة الإنسانية، وامتد تأثير هذه المواقف والحراك المحموم من توجيه الرأي العام الأمريكي والعربي إلى المؤسسات السياسية الأمريكية، وبدا ذلك واضحاً في جملة العقوبات الأمريكية إزاء السودان والقرارات التي انطوى بعضها على انتهاكات جسيمة لسيادة السودان، بإصرار الإدارة الأمريكية على تحميل الحكومة مسؤولية ما يحدث في دارفور من انتهاكات للكرامة الإنسانية. ومارست الولاياتالمتحدة ضغوط هائلة على مجلس الأمن وتمكنت من حمله على تبني التوصيف الكامل لمشكلة دارفور، وتمديد العشرات من مشاريع القرارات التي تدين الحكومة وتحاول أن تثبت عدم تعاونها، حتى أقدم مجلس الأمن في ذات المرات بإصدار ثلاثة قرارات تتعلق بدارفور خلال أسبوع واحد. وأخيراً يمكن القول أن السياسة الأمريكية تجاه السودان تتسم بالطابع عدائي يقوم على التجاهل البائن لما تقوم به الحكومة، فالأمريكيون لم يكونوا منصفين في قراراتهم وأحكامهم تجاه الحكومة بخصوص قضية دارفور. وأن الدافع الاخلاقي لم يكن هو المحرك تجاه مشكلة دارفور، بل مصالح محددة ترجوها الولاياتالمتحدة من خلال مواقفها ذات الطابع الاستعلائي والاستهدافي لبعض الدول، وكذلك نتوصل في نهاية الأمر إلى أن السياسة الأمريكية لن تتبدل أو تتغير تجاه حكومة السودان حتى وإن صدرت تصريحات وعبارات تحمل في ثناياها سمة إيجابية من دان سميث أو غيره. وإن أرادت إدارة أوباما الظهور بنهج جديد تجاه قضية دارفور بعكس ما سارت عليه إدارة الرئيس السابق جورج بوش التي كانت لها القدح المعلى في تدويل القضية فإنها لن تستطيع، لأن مجموعات الضغط المتعصبة والمعادية كما ذكرنا سالفاً هي القابضة على زمام الأمور.