أنطوت حادثة العدوان الصهيوني على (مجمع اليرموك) قبل الاسبوع الماضي على عدة اعتبارات استراتيجية، ولكن لم تجد حظها من العرض والتناول والتحليل، حيث أتسمت التغطية الإعلامية للحادثة بالسطحية والضحالة تارة، والخفة والتعجل تارة أخرى، هذا بجانب محاولات البعض توظيف الفاجعة ،بغرض تحقيق مكاسب سياسية ،ولتصفية الحسابات مع النظام القائم. ويعتبر مجمع اليرموك، الذي تأسس في بداية ثورة الإنقاذ الوطني، أحد ترجمات (الطموح الوطني)، والذي يهدف إلى تحقيق الاستقلال التام للإرادة الوطنية، بتأسيس البنيات التحتية اللازمة، لقيام صناعات وطنية عبر كوادر وقدرات وطنية خالصة، وحقّق المشروع نجاحات عظيمة، رغم الحصار والعقوبات الدولية ،من قبل الدول المعادية للتوجه الإسلامي في البلاد، حيث أمكن للسودان تحقيق قدر كبير من توفير معدات وعتاد التسليح للقوات النظامية السودانية ، لاسيما في مجالات الأسلحة الصغيرة ، وهو مالم تنجح فيه كثير من الدول ،والتي ظلت طوال تاريخها المعاصر، ترسف تحت أغلال واردات الأسلحة الغربية، مما يجعل هذه الدول مقيدة بقيود ناعمة، تتمثل فى الجوانب السرية لبنود وعقود التسلح تلك، وهو ما كشفت خفاياه سلسلة البرنامج الوثائقي (أرشيفهم وتاريخنا) والتى بثت على شاشة قناة "الجزيرة" منذ فترة، والتي خصصت لبرامج تسلح الأنظمة العربية الحديثة. مراوغة صهيونية وتعرض مجمع (اليرموك) إلى قصف قامت به أربع طائرات إسرائيلية، بحسب تأكيدات وزير الإعلام السوداني، ولزمت "إسرائيل" الصمت وأتسمت تصريحات مسؤوليها ومعلقي وسائل إعلامها، بالمواربة والمراوغة ،دون تبني العملية صراحة ،وهي استراتيجية درجت عليها دولة الكيان الصهيوني، كما في حالات الاغتيالات والتصفيات بحق النشطاء والمقاومين في فلسطينالمحتلة ولبنان وغيرهما. وركّزت المواقف الصهيونية على محاولة تثبيت الرواية التالية: أن السودان دولة إرهابية، وهو قال به عاموس احد مستشارى وزارة الدفاع الإسرائيلية، وتّصدر الأسلحة إلى قطاع غزة -والذي تديره حركة حماس_ وأن عمليات التهريب في تزايد، وأن إيران تخزن وتصنع الأسلحة، خاصة صواريخ (شهاب)، في السودان. وتهدف الرواية الصهيونية تلك، إلى إضفاء شرعية قانونية على ما قامت به "إسرائيل" من عدوان -وما ستقوم به لاحقاً- من خلال الربط بين حركة حماس -المصنفة كمنظمة إرهابية وفق الأدبيات الغربية- وإيران ، والمتهمة هي الأخرى بتهديد الأمن الإقليمي وفق التوهم الغربي،ونشر الإرهاب، وجميع هذه الاتهامات والمزاعم لا يسندها دليل أو قانون دولي، وهي من جانب واحد، وهو ما يضع إسرائيل تحت طائلة الإدانة الأخلاقية،حتى في ظل الغطاء الأمريكي والغربي ،الذي يتوفر لها عبر حق النقض (الفيتو)داخل مجلس الأمن الدولي. تواطء غربي ورغم وجود أدلة وقرائن تؤكد ضلوع إسرائيل في العدوان على السودان، وتدمير مجمع "اليرموك" عبر قصف جوي، أكدته الأممالمتحدة، والتي استندت إلى تحليل صور الأقمار الاصطناعية، وهو ما عزّز الرواية السودانية ،والتى تقول بأن الموقع تعّرض لقصف جوي، ولكن الأممالمتحدة والدول الغربية لزمت الصمت حيال ذلك ولم تنبس ببنت شفا. ويعزى صمت الغرب على سلوك إسرائيل الإرهابي، إلى جانب الانحياز المطلق لها، إلى محاولة استخدام إسرائيل كدولة وظيفية في قلب الوطن العربي، ولكونها تصطنع المبررات لسلوكها العدواني، في تحقيق ما عجزت عنه هذه الدول الغربية ،وهو إسقاط النظام السوداني، بعد أن فشلت كافة المحاولات السابقة ،وآخرها التعويل على متمردي قطاع الشمال، وفشل بروز ربيع سوداني. ويعتبر موقف الأممالمتحدة والدول الغربية تلك، إخلال بمبادئ الشرعية الدولية واستمرار في نهج الكيل بميكالين وازدواجية المعايير، وهو ما يؤدي إلى تهديد حقيقي للسلم والأمن الدوليين. أدلة دامغة: إن مسارعة السودان إلى اتهام الكيان الصهيوني بقصف موقع اليرموك، بعد مُضي بضع ساعات، على خلاف حالات أخرى وقعت شرقي البلاد، لم يبادر السودان-حينها- صراحة إلى توجيه الاتهام إلى إسرائيل مباشرة، مرده إلى الموقف السوداني ،هذه المرة، أنبنى على عدد من المعطيات والأدلة الدامغة: منها، إن الحادثة ليست في مقدور أي حركة تمرد محلية تفعلها، بنفس الكيفية التي تمت بها، وأن دولة الجوار -حتى تلك التي تتسم العلاقات بينها والسودان بالعداء، كجنوب السودان- من المستبعد قيامها بذلك أيضاً ،كما أن الولاياتالمتحدة ،والتي لديها سوابق، كقصف مصنع الشفاء للأدوية في أغسطس 1998م ،في ظل الوضع الراهن، لا تجرؤ على القيام بذلك،سواءاً بدافع إمبريالية ،أولأغراض إنتخابية، وأن تلك الحادثة الإرهابية تشبه سلوك دولة الكيان الصهيوني،والتي عُرف عنها الغطرسة والعدوان وانتهاك الشرائع الدولية، لكونها كيان استعماري إستيطاني، لم تعرف البشرية له مثيل في الإفراط في الإعتماد على القوة العسكرية والعدوان والقتل لإخضاع السكان الأصليين(الفلسطينين) أو الجيران(الدول العربية)، فضلاً عن نوعية المنشأة المستهدفة. وفي العام 2008م، أشاح آفي ديختر رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي ،عن الأهمية التي يحتلها السودان في نظرية الأمن القومي للكيان الصهيوني ،عندما قال: إن السودان بموقعه الجيواستراتيجي والإمكانات الكامنة فيه، يمكن أن يكون عمقاً إستراتيجياً للدول العربية، وخاصة مصر، وأنهم يعملون على إستغلال التناقضات الأثنية والعرقية والطائفية لتفكيكه وإضعافه، وبالتالى منعه من بناء قدرات ذاتية،خاصة فى المجال العسكرى . تفوق إقليمي وتندرج الغارة الصهيونية على موقع "اليرموك" في إطار الاستراتيجية الإسرائيلية الرامية إلى تحقيق تفوق إقليمي على سائر دول منطقة الشرق الأوسط( والتي تشمل الدول العربية وإيران وتركيا)، والإبقاء على ذلك قدر الإمكان، بالتركيز على إضعاف الدول العربية خاصة، ومنعها من تطوير قدرات دفاعية مستقلة ،وجعل عمليات تسلحها تحت المراقبة، من خلال قنوات واردات الأسلحة (الغربية غالباً) ،أو حتى تدميرها، إذا تجاوزت الخطوط الحمراء. وينتج مجمع اليرموك أسلحة خفيفة، وهي أسلحة شرعية وغير محرمة دولياً ،وذات استخدام داخلي فقط ،ولم تورد- قط- المعاهد والمراكز الدولية المرموقة ،والتي ترصد عمليات التسليح وترصد نقل الأسلحة دولياً والنزاعات القاتلة، مثل (معهد استوكهولم لأبحاث السلام الدولي)، و(مشروع مسح الأسلحة الصغيرة) بسويسرا، ولجان الأممالمتحدة المعنية بالأسلحة ...ألخ، بأن السودان قام بتصدير أسلحة إلى خارج حدوده الوطنية، لصالح دول أو مجموعات مسلحة أوتغذية حروب قائمة. وهدفت إسرائيل وراء قصف مجمع "اليرموك" إلى تحقيق لعدة أهداف من بينها: محاولة إستباق مخرجات ربيع الثورات العربية ،وإمكانية ونشؤ" شرق أوسط جديد" يضع حداً لتفوقها وغطرستها، وإرسال رسائل إلى دول الربيع العربي، أنه إذا ما حاولت كسر التفوق الإقليمي الإسرائيلي، فإن النتيجة ستكون تدمير القدرات العسكرية لتلك الدول ،على غرار ما جرى مع مجمع "اليرموك" وأيضاً تدشين مرحلة جديدة بإحياء نظرية (شد الأطراف) والتي أطلقها ديفيد بن غوريون ،غداة نشؤ دولة الكيان الصهيوني 1948م من خلال التحالف مع الدول المحيطة بالدول العربية من جهة ،والتحالف مع المكونات الطائفية والأثنية والعرقية والمذهبية والدينية لتفجير الصراعات فيما بينها ،بما يؤدي إلى إضعاف وتفكيك الدول العربية تباعاً . وفي السودان، على وجه التحديد ،أرادت (إسرائيل) تعديل كفة الميزان العسكري الراجحة لصالح الجيش السوداني في الوقت الراهن لتكون لصالح حركات التمرد، والرسالة الأهم هي الموجهة إلى مصر الطامحة إلى إعادة دورها الإقليمي بعد ثورة 25 يناير، وهي أن السودان بات أحد مهددات الأمن القومي لمصر ،بدليل حوادث تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة ،عبر الحدود مروراً بسيناء التي تنشط فيها الجماعات "السلفية الجهادية"، والتي هاجمت مواقع الجيش المصري وقتلت عدداً من عناصره في أغسطس الماضي، وبالتالي دق إسفين الخلافات وبذور الشقاق بين البلدين، لحرمانهما من فرص التكامل بينهما ،والحيلولة دون تطور علاقاتهما إلى شراكة استراتيجية، خاصة في ظل تعقيدات الأوضاع الداخلية في مصر. كما أن "إسرائيل" تريد إيصال رسالة بخصوص البرنامج النووى الإيرانى إلى إيران والغرب و دول المنطقة ،بأن "إسرائيل" ستهاجم إيران ، بسبب برنامجها النووى ، وأن قصفها لليرموك مجرد "بروفة" لجس النبض، للتكهن بردود الأفعال، في حال وقوع ذلك.