== ما نحتاج اليه هو توضيح الحقيقة التي يعمى الكثيرون عن رؤيتها . إنها القول بأن الدولة المدنية و الديمقراطية و حقوق الإنسان لا تتعارض مع الإسلام . و لابد في هذا السياق من القول أن المبادئ الجديدة و نعني بها مبادئ الدولة المدنية و الديمقراطية و مبادئ حقوق الإنسان جاء وجودها تناغما مع طبيعة الحياة التي لا تعرف غير التغير من ناحية و التعدد و التنوع من ناحية أخرى . و الدين أكثر الأشياء تغيرا و تنوعا رغم وحدة المنبع الذي صدر منه . فعلى مر التاريخ هناك دائما أديان عديدة لأقوام مختلفة يشرف عليها أنبياء متنوعون . و ما أن نصل الى النبي أبراهيم حتى نشهد بعده إنبثاق ما يعرف اليوم بالأديان السماوية الثلاثة : اليهودية و المسيحية و الإسلام . بل و ما أن تشكلت الملامح الأساسية للإسلام حتي بدأ يتفرع هو الآخر الى فرق و طرق و طوائف أهمها ثلاثة : السنة و الشيعة و التصوف . فإذا كان هذا هو حال الأديان السماوية فما بالك بالأديان الأرضية المنبثقة من الفلسفات البشرية منذ سقراط و أرسطو و إفلاطون و حتى اليوم . لقد بات العالم مدركا لحقيقة أن التنوع هو سمة الحياة الأساسية , و أن المطلوب ليس ألغاء هذا التنوع و لكن تهيئة البيئة المناسبة لبقائه و نموه في ظروف خالية من الإحتراب و التقاتل و الصدام الدموي العنيف . كل ذلك كان الأب الشرعي لفكرة الدولة المدنية التي جاءت لتدعم التعايش السلمي بين المختلفين و ترعى التسامح بين شعوب الأرض المتنوعة . فالدولة المدنية إذن هي من أجل التعايش و التسامح . و هي بهذا الفهم ليست ضد الإسلام . و الإسلام لم يأت ليؤسس لديكتاتورية دينية رغم ما عاناه في سبيل أن يسمح له بالوجود و البقاء و النمو في مكة و يثرب مما إضطره مؤقتا للمقاتلة و سفك الدماء . فمنذ البداية كان مبدؤه (لكم دينكم و لي دين ) . و هذا هو عين ما عبر عنه في نهاية المطاف بقوله (إذهبوا .. فأنتم الطلقاء) . == و الدولة المدنية تقوم على ركيزتين .. إحداهما هي الديمقراطية التي تسمح بالتداول السلمي للسلطة .. و لا نحتاج الى الحديث عنها كثيرا بعد أن تم قبولها إسلاميا حتى من قبل السلفيين الجدد في مصر . كما لسنا محتاجين لأن نذكر نموذج الإسلام التركي في تطبيق الديمقراطية الذي إقترب كثيرا من الدولة العلمانية . و أما الركيزة الأخرى للدولة المدنية فهي حقوق الإنسان التي تمثل المرجعية الدستورية حتى للدستور نفسه . و أي بند في الدستور .. و أي تشريع و قانون يتعارض مع حقوق الإنسان يعتبر باطلا بإعتبار أن حقوق الإنسان تضمن الحقوق المشتركة بين الجميع بغض النظر عن أديانهم و إنتماءاتهم المختلفة . و بناءا على ذلك يمكن أن يكون المشرعون في البرلمان مسلمين أو غير مسلمين إذ ليس ذلك هو المهم .. المهم أن لا تأتي تشريعاتهم متعارضة مع حقوق الإنسان . و بذلك يتسنى للجميع أن يعيشوا معا و في نفس الوقت أن يعيشوا وفق معتقداتهم التي يستطيعون تطبيقها على أنفسهم في حرية كاملة . إن المشكلة كل المشكلة تظهر حينما نفرض معتقداتنا على الآخرين فرضا و نحملهم عليها حملا . فالدين إنما هو نوع من الأيدلوجية مثل الشيوعية و الوجودية و الإلحاد و غيرهم . و أنا كمسلم لا أقبل بأن يفرض الشيوعي أيدلوجيته على . و لكن .. يجب على بنفس الطريقة أن لا أفرض علي الشيوعي أو الملحد أيدلوجيتي التي هي ديني و إسلامي . و الأسلام جوهره آية الحرية الدينية (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مسلمين ؟) . فالدولة المدنية هي دولة المختلفين جميعا في أي زمان و أي مكان . الدولة المدنية هي دولة التسامح و التعايش بين المختلفين . و الدولة المدنية هي دولة مرجعية حقوق الإنسان . == و كذلك ليس هناك أي تصادم بين الإسلام و مبادئ حقوق الإنسان . بل الأصح أن الإسلام تضمن كثيرا من مبادئ حقوق الإنسان . بيد أننا نسمع من بعض المسلمين قولهم أن حقوق الإنسان تعارض الإسلام حينما تنادي بحرية العقيدة و الإعتقاد و التي في رأيهم تصادم مبدأ الردة المعروف في الإسلام .. تلك الردة التي عقوبتها إخراج الروح من الجسد . و لا شك أن الردة من مبادئ الإسلام التي لا ينكرها إلا مكابر . فالردة هي الخروج على نظام الدولة المعبر عنه اليوم بكلمة (الخيانة العظمي) . و قد نفذ الصحابة رضوان الله عليهم عقوبة القتل على بعض المنافقين الذين ثبت تورطهم في التآمر على الدولة آنذاك و قيامهم ببعض الأعمال التخريبية . و لعله قد بات واضحا أننا لا نتحدث عن خروج وخيانة و لا تآمر و تخريب عند الحديث عن حرية العقيدة . تلك الحرية التي قال عنها الإسلام ( إن الذين آمنوا و االذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله و عمل عملا صالحا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون ) . بل إن الإسلام أعطى الحرية للناس لأديانهم بما فيهم المجوس و المشركين كاملة في الحياة الدنيا و قال ( إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) . فأين هو التعارض بين الإسلام و حرية العقيدة ؟ == و من ناحية أخرى يرى البعض من المسلمين أن حقوق الإنسان تنادي بعدم التمييز بين الناس بحسب الدين . و في رأيهم أن هذا يتعارض مع مبدأ الإسلام القائل ( أن الدين عند الله الإسلام ) و الآخر القائل بإفراد أهل الكتاب بمعاملة مختلفة ( حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون ) . لقد فات على هؤلاء أن الدين عند الله كان و ما زال و سيظل هو الإسلام و ذلك في معنى الإستسلام لقوله تعالى (لا إله إلا الله) . و الإسلام أقر بأن الأنبياء كافة كانوا مسلمين و ماتوا مسلمين . و لن يقبل من أي إنسان شئ سوى الإسلام .. و لكنه إسلام الوجه لله تعالى خالق الكون و العالمين . فإذا كان الله يطلب إسلام الناس فإنه حتما لم يطلب من أحد الناس فرض الإسلام على الناس و الله لم يطلب ذلك و لا حتى من أشرف الناس (لست عليهم بمسيطر) . أما إعطاء الجزية فقد كان مرحلة في طريق الدعوة أرخ لها القرآن مثلما أرخ لغزوة بدر و الخندق و لحادث المعراج و الإفك و غيرها من الأحداث المرتبطة بحياة الرسول مثل الغنائم و الفئ و الأنفال و مثل الإماء و الجواري و العبيد .. و جميعها أحداث كانت معاصرة جاءت للعظة و الإعتبار تماما مثلما تمت الإشارة لأحداث غابرة عن قوم لوط و عاد و عن إرم ذات العماد . و لقد كان الصحابي الجليل عمر بن الخطاب سباقا في قراءة مرامي الآيات حينما أوقف سهم المؤلفة قلوبهم لأن الزمن كان قد تجاوز ذلك التشريع . == و يثير بعض آخر من المسلمين مسألة أحرى يرون أن الإسلام فيها يتعارض تعارضا بينا مع حقوق الإنسان .. تلك الحقوق التي منعت التمييز بين الناس على أساس الجنس .. ذكر و أنثى .. رجل و إمرأة . و هم في ذلك إنما يشيرون إلى آيات القوامة و الميراث و الشهادة . و صحيح أن الإسلام قد قرر القوامة للرجل على المرأة .. و نحن لا نؤيد ذلك فقط بل و نراه من الصفات الجميلة التي تميزنا نحن المسلمين دون العالمين . فالقوامة ليس معناها السيطرة و الإستعلاء و الطغيان على المرأة . القوامة تعني أن يقوم الرجل بخدمة المرأة و الإنفاق عليها سعيا وراء تكريمها و تهيئة الظرف المناسب لها و هي الحامل و المرضع و المنشئ لأفراد المجتمع رجالا و نساءا . القوامة عند المسلم السوداني هي أن يترك مقعده في البص لأي إمرأة لتجلس هي و يبقى هو واقفا حتى نهاية الرحلة .. و هي نفس القوامة التي تدفع المسلم السوداني ليوصل بنات الجيران لبيوتهن عندما يكون الوقت ليلا و الظلمة حالكة و كلاب الحلة تنبح . و من ناحية أخرى إنها نفس القوامة التي جعلت صينية الغداء تخرج للرجال أولا قبل النساء . و لم يجعل الإسلام للرجل جراء ذلك أي ميزة على المرأة . لقد كان الإسلام على العكس سباقا في أن جعل الميزة للمرأة فيما يعرف اليوم بالتمييز الإيجابي . و يظهر ذلك اليوم في التشريعات التي تجبر الشركات على توظيف النساء بمقدار لا ينقص رغبة في تهيئة الفرصة للمرأة للوصول الى عالم المساواة الكاملة . و يظهر أيضا في جعل نسبة معينة من مقاعد البرلمان للنساء لذات السبب . فالقوامة ليست إنتقاص للمرأة بل تكريم . و هي أيضا ليست سلطة فوقية في يد الرجل ضد المرأة بل تكليف إسلامي للرجل بغية الوصول للمساواة الكاملة كما ذكرنا . و ظهور عدم المساواة لم يكن بسبب الدين و إنما بسبب ممارسات تاريخية بعيدة المدي تم فيها قمع المرأة لصالح الرجل على مر العصور .. و وصل القمع و الظلم الى حد إقصائها من الحياة العامة حتى باتت لا تعرف عنها شيئا . و لذلك جعل الإسلام شهادة المرأة على النصف من الرجل في مسألة تتطلب المعرفة و الخبرة بشؤون المال و الإستثمار إلا و هي الشهادة على الديون المالية . و فيما عدا ذلك فالكل يعرف أن شهادة المرأة مساوية لشهادة الرجل في الإسلام . فالإسلام لا يرى أن المرأة هي على النصف من الرجل في كل شئ . و من ناحية أخرى فإن إحصاء حالات المواريث و التي نجد فيها أن المرأة ترث النصف لا تتجاوز الأربع حالات في مقابل ما يزيد على ثلاثين حالة أخرى في نفس نظام المواريث الإسلامي ترث فيه المرأة ما يساوي نصيب الرجل حينا و ما يزيد عليه حينا آخر . و مرة أخرى نؤكد أن الإسلام لا يقول بأن المرأة أقل من الرجل . فأين هو ذلك التعارض المزعوم بين الإسلام و حقوق الإنسان و الديمقراطية .. أو بينه و بين الدولة المدنية . الإسلام و الدولة المدنية: /بقلم/ نوري حمدون - الأبيض- السودان