من الأحداث رحل عنا إنسان وسيم آخر: حميد. وهو نفسه القائل عن سقم الرحيل في الزمان الباطل: أصحى يا نائم سمي الدائم الحياة حق أسرفنا مياتم قضى وهو على سكة من سماهم محمد المكي إبراهيم "أجدادي شعراء الشعب". إسماعيل صاحب الربابة، أحمد أبو سعد، العباسي، البوشي، المجذوب، صلاح أخو فاطمة، ود المكي، محجوب شريف. وصفتهم قبل أيام هنا بالبطر بالشعب والغرق فيه والسكر به في دلالاتها الصوفية. وهو بطر كان فيهم منذ الأزل "نِحلَة" من مكي الدقلاشي "حافظ الكتاب وشايلو الشباب". لحميد نظر للشعر فيه بطر أغر. فالقصيدة عنده وهيطة. وهذا البلد عنده وهيط. وهيط وهاطة القصيدة. وهذا قريب من قصيدة عبد الله الشيخ البشير "بيت شعر". فالأكوان التي تداعت لميلاد بيت شعره الوهيط شاملة لم يتأخر عنها أحد. وقد وسعها البيت الذي هازجها من مزماره. وامتعني حميد بتعريفه الطريف للشعر الذي استقاه من انغماسه في عالم نشأة الزروع والنخيل. فالقصيدة عنده شوكة كمثل التي يحملها المزارع في رجله أبداً طالما بقي مزارعاً. قال: طالما كنت مزارعاً هناك شوكة في رجلك. فهي تضايقه ولكن جداول الماء تدعوه لري الزرع فيؤجل إستخراجها حتى يؤمن انتظام تدفق الماء. وهو يستمتع بهذا الإرجاء حرصاً على قطائف الغد. وهذا هو فتح الكون بالقصيد الذي أذاعه التجاني يوسف بشير ليتأتى لنا "الوجود المغاير". أجدادي شعراء الشعب تقليد في الجزالة. فلا يصير الشاعر جداً شاعراً للشعب بأي شعر. فالسلطة في قول حميد لا تخشى الشعر الهتافي ولكن من الشعر البشارة. وهو شعر الوجود المغاير. وجزالة حميد بينة. وتوقفت مراراً عند الخيال الذي وراء هذه الجزالة. فهو شاطح في معنى الكسترول الطيب تمييزاً له عن الكسترول الخبيث. فالجرف الذي نبت عليه العشر جاءه الفيضان فأزدهر. وسمى الشاعر هذا الازدهار "طلق ضهرو": نزل بحرو الطلق ضهرو وهذا عجيب. وقال عن بحثه عن الحبيب في الجهات الأربع: غربّل عليك ليل المدائن فأنظر استخدامه الشاذ ل"غربل" أو قوله: ما خش نور في إبر النهار. عجيب. أما ما توقفت عنده حقاً فقوله: عينيك يا كاحلة أم دعج للحَلمَة بفرح قريب للسَهوة في محيا الحبيب وكنت في مكان من قريب وصدقني رأيت "السهوة في محيا الحبيب" وديناميكيتها ولم اجد لها عبارة في حصيلتي. بالطبع حميد يساري. وأكثر أجداد الشعب المعاصرين كذلك. ولكنه يساري بلا ضفاف. فهو معطون في الشعب لم يجعل من مهمته "طليعية" متأففة من تلك الني تصفه ب"البدائية" أو "البله الريفي". فوجدتني لا أمل استعادة قصيدته في السيد محمد عثمان الميرغني. فمن الواضح أنه لا "يعتقد" فيه ولكن من أجل وشيجة بيته بالمراغنه وكتل الختمية تكرم كل عين. ربما عَدّ بعض الطليعيين "وجد" الختمية بالمراغنة مجرد "وعي زائف" اي إيدلوجية ولكن ما أحلى الوعي الزائف ذاته عند الشعب. وذكرتني قصيدته في الختم مرثيتي للسيد على الميرغني في 1968 التي عزيت فيها أمي واستعدت تاريخاً كاملاً من النذور والأتربة المقدسة التي انهالت عليّ من بركة السيد قبيل الامتحانات والمنعطفات. أعجبني كيف تسللت إكلشيهات الختمية في القصيدة حتى "نحن نائد حزب السيد". فاقترابه من الختمية كان اعترافاً بأنه ربما لم يفهم حقيقتهم. وبتواضعه المعهود شملهم في شعره "البشارة". ألم يقل في جدل مشبوب بالصوفية: ولمّا لم أع الفَحوى وعيتُ