[email protected] أما الدومة ... فأمرها عجيب ويرقد تحتها ودحامد الأسطورة يكثر في السودان الشيوخ ، الضرائح ، القباب ، ولكل منهم قصة ، ولكل قصة مصدقين بها ، ولكل شيخ حواريين ، فهل يغلب الحوار شيخه في السودان ؟ لا أعتقد ذلك ، إلا إن كان متمرداً ، فيترك في هذه الحالة الطريقة . الشاهد أن أسطورة الشيوخ ، خاصة وإن كانت قديمة فلم يشهد الحضور في القرية زمان ذلك الشيخ .. أي شيخ ، فإن الأمثال تظل تروي ، والكرامات تتلون ، ويأتي كل جيل بسرد كرامات جديدة ، ربما تناقلتها السنون من قبله ، أو ربما أضاف عليها أبعاداً جديدة من باب التأليف الذي يقود للتشويق ، أو ربما يقوم الشخص بتأليف عدة كرامات أو كرامة واحدة يستطيع بموجبها إقناع الناس من حوله في تلك المجتمعات البسيطة بأن هذا الشيخ ( إيدو لاحقة ) وبالتالي يجب الإيمان والتسليم بكراماته . ومن هنا نسج الطيب صالح عدة أحاجي علي لسان الناس هناك حول الشيخ ودحامد الذي يتواجد مرقده الأبدي تحت جزع تلك الدومة التي تقف شامخة فوق تل يطل علي ضفة النهر ، فترمي بظلها صباحاً علي الجرف ، وعصرا يتمدد ذات الظل فوق مياه سطح نهر النيل ، ويرسم الطيب صالح صورة زيتية لذلك المشهد بقلمه الذي لايمل من الوصف الجاذب الذي يدغدغ مشاعر القاريء . والقباب وأضرحة الشيوخ نراها تنتشر في كل الجزيرة والمناقل وشرق النيل الأزرق وكل ولايتي نهر النيل والشمالية ، غير أنها لاتتوافر في مناطق السكوت والمحس والنوبة . وهنا فقد سألتُ الأستاذ الموسيقار الكبير الفنان محمد وردي إبان فترة علاجه بالعاصمة القطرية الدوحة سؤالاً محدداً يتعلق بعدم إهتمام أهل النوبة العريضة بمسألة الشيوخ والحيران وبالطبع أدب المدائح ، فكان رده بأن أهله في تلك المناطق يأخذون الدين بعقلانية والتي يعتبرها البعض ( غلظة ) أو جفاف في المعتقد الروحاني ، وأضاف وردي قائلاً : ( لذلك لا توجد قباب أو ضرائح لشيوخ في مناطقنا ) . ومن حديث الأستاذ محمد وردي ، طرقت كثيراً أدرس في حديثه هذا ، لماذا لا توجد قباب أو شيوخ عندهم ، وحتي إن وجد الشيوخ فإن حدودهم هي تعليم الناس القرآن وأصول الفقه والحديث ، فهل ياتري هم علي صواب ونحن في بقية أرجاء السودان علي خطأ ؟ أم العكس صحيح ، أم أن كلا الحالتين صحيحتين؟ سؤال مطروح للبحث المتأني ، نظراً لحساسية الأمر . وقد ظل الناس في منطقة دومة ودحامد يفرضون عدة مشروعات إنمائية بالمنطقة ، لكنها تعمل علي إنشائها في ذات مكان الدومة بعد أن تزال ، وهنا يعترض أهل المنطقة علي قرار إزالة الدومة ، بل يهجم البعض علي مسؤولي الحكومة المحلية إن أرادو إزالتها لأي غرض تنموي ، خاصة وأن السلطات كم من مرة أرادت إنشاء مرسي للباخرة النيلية في مكان الدومة ، هكذا حكاها لنا الطيب صالح ، حتي يؤكد علي أهمية إحترام معتقدات الناس هناك علي بساطتهم . ومن كرامات ودحامد ، حكاية المرأة التي أخذت منها الحمي مأخذا مرهقا ليلاً ، فنهضت من مرقدها والناس نيام لتذهب إلي ضريح ودحامد القابع تحت دومته التاريخية ، لتأخذ مرقدها هناك في الليل وهي تطلب منه في رجاء عجيب ، إما أن يأخذ بيدها من هذا السقم ، أو يأخذ بعمرها في ذات المكان . ثم يمضي الليل ، وتبزغ خيوط الفجر لتجد المرأة نفسها في أحسن حال ، فتذهب إلي بيتها ، وقد ظلت في حالة دهشة تتساءل من الذي أخذها ليلا إلي الدومة ، وكيف عادت إلي البيت ، بل طلبت من زوجها وأهل بيتها أن يعلنوا للناس شفاءها تماماً ، ليتجمع القوم في الصباح الباكر ، وتحكي لهم الحكاية . هكذا يريد الطيب صالح أن يؤكد كرامات ودحامد ، وربما قداسة شجرة الدوم تلك التي ظلت تصارع كل الأزمنة في شموخها ذاك . فهل ياتري أن الطيب صالح يرمي إلي أهمية الإهتمام بالآثار التاريخية في منطقته ، كثقافة ومفاهيم جديدة إكتسبها من التراث الإنجليزي إبان مكوثه هناك ، وبالتالي فهو يعتبر أن الدومة تلك يجب الإهتمام بها ، وهو ربما كان يعيش حالة ( نوستالجيا ) الزمان والمكان وقد كان بعيداً بعيداً بعيداً جداً عن تلك الدار وهو في تلك السن الشبابية الباكرة من عمره ، والنستالجيا هي بالطبع العاطفة الجياشة أو الحنين الدفاق . وأعتقد أن الطيب صالح كان يعيش ذاك الحنين النوستالجيا بمعني الكلمة والدلالات . لكننا لا نجد ذات الإهتمام من أهالي حي ودنوباوي بأم درمان بتلك الدومة التاريخية التي كان يرتفع ساقها بكل شموخ تاريخي في شارع السيد عبدالرحمن بذلك الحي ، للدرجة التي أطلقوا عليه ( شارع الدومة ) وقد أزالتها السلطات المحلية في زمان الرئيس جعفر نميري ، بسبب أنها باتت تسبب الحوادث المرورية للسيارات بعد أن تعاظمت أعداد السيارات ، فلم يعترض أهل الحي ، ولا حتي الصحف التي ظلت تكتب في الكبيرة والصغيرة كما يقول المثل ... وحتي الرئيس النميري نفسه لم يحرك ساكناً عندما أزيلت تلك الدومة التاريخية التي تقسم الشارع إلي نصفين لمائة عام خلت .. نعم لم يعترض أحد لأنه لم يكن هناك شيخاً يأخذ مرقده تحتها .