وكل الناس لا حديث لهم إلا الوطن، والدفاع عن الوطن. كانت لحظات واعية أسقطت إدراكها وشعورها على الجميع، فأحتشدت المشاعر وأطلقت أجنحتها، لا تحركها عصبيات ولا أوهام .. فكان درساً مجانياً يعلم الناس كيف يكون الحب والولاء والموت من أجل الوطن. وكيف يكون طعم الخيانة مراً كالعلقم، والإحساس بالغبن عميقاً بحجم الأسى الذي جاء من هجليج. شهداء وجرحى، ودمار أصاب بنية الإقتصاد تطاولت آثاره لمعاش الناس. لا حديث لهم إلا عن الوفاء والغدر ... الخيانة وصون العهود، الكرامة وما دونها ... وكل المتناقضات التي حفل بها قاموس أولئك الأشرار وقد جثمت على صدورهم جبال من الحقد والكراهية، أما الوفاء فقد أرتد إلينا جحوداً ونكراناً.. ففي ساعة طائشة أفرغوا كل سمومهم وأحقادهم هناك في هجليج دون هدف واضح، أو مبرر يشفع لهم ما قاموا به من إعتداء أثيم، وها هم -بعد أن انقلب عليهم تدبيرهم- طفقوا في لعب دور الضحية بمهارة متناهية يحسدهم عليها ممثلي الدراما، وذلك طبعهم دائماً. كم هي قصيرة ذاكرتهم التي أسقطت صنائع المعروف، وتجاهلت التاريخ الإنساني المشترك. فقد تحقق لهم فوق ما ظلوا يحلمون به. فها هي دولتهم كاملة بخيرها الذي حصدوه دونما عناء. لكنه طبع اللئام. حادثة هجليج رغم ما أدخلته في النفس من غبن وضيم وأذى، إلا أنها أكدت أصالة الشعب السوداني، إنه بحق شعب لا يرضى المذلة و"الحقارة". فقد تضامن الجميع في سبيل الدفاع عن الأرض والعرض وصون الوطن من الدخلاء والمعتدين متجاهلين خلافاتهم ومتناسين ما يفرقهم. هذه الخاصية الفريدة المتأصلة في الشعب السوداني تثبت فعلاً أنه جدير بالإحترام والتقدير. نحن شعب لا نقبل "الحقارة" ... هكذا تعلمنا من أجدادنا، وهكذا تعلمنا ممن سبقونا، وحفظته أدبياتنا منذ أيام مهيرة التي قالت: الليلة استعدو وركبو خيل الكر قدامهم عقيدن باللغر دفّر جنياتنا العزاز الليلة تتنبر يا الباشا الغشيم قول لي جدادك كر ومخطي من يسي تفسير نبلنا وروحنا السمحة بأنها ضعف أو خنوع، بل هو الحلم في أسمى معانيه. لكن للصبر حدود، كما للحلم حدود أيضاً... وغضب الحليم لن يقف أمامه سلاح أو تهزمه قوة.. ألم يقل شاعرنا: الحرب صبر واللقاء ثبات والموت في شأن الإله حياة والجبن عار والشجاعة هيبة للمرء ما اقترنت بها العزمات والصبر عند البأس مكرمة ومق دام الرجال تهابه الوقعات لا أحد يتمنى الحرب أو يسعى لها، وإن حدثت الحرب لا يملك الناس حينها إلا مواجهتها بصدور مفتوحة، وبسالة متناهية من أجل تراب الوطن والحفاظ على مقدراته دون النظر لوجهة الناس أو ما يعتقدون، فما يوحد الجميع هو الوطن فهو فوق الجميع.