شعار براؤن يصل يورو 2024 روديغر لاعب منتخب المانيا يقلد المصباح ابو زيد والاتحاد الأوروبي يتدخل    شاهد بالصورة.. الفنان مأمون سوار الدهب وزوجته يعودان لإشعال مواقع التواصل بلقطة رومانسية    شاهد بالفيديو.. استخبارات الجيش بالقضارف تضبط شاحنة "لوري" محملة بعدد كبير من "براميل" البنزين والمواد الغذائية حاول مواطنون تهريبها لقوات الدعم السريع والجمهور يطالب بإعدامهم رمياً بالرصاص    شاهد بالصورة.. خلال مباراة فريقها بالدوري التونسي.. جماهير فريق مستقبل قابس تدعم السودان بلافتة كتبت عليها: (من غزة إلى السودان الخذلان هو العنوان)    شاهد بالصورة.. الفنان مأمون سوار الدهب وزوجته يعودان لإشعال مواقع التواصل بلقطة رومانسية    شاهد بالفيديو.. سيدة سودانية تطالب طبيبة مصرية بإعادة وزنها بعد أن كان 94 كيلو وأصبح 64 كيلو (زوجي كان يناديني "جون سينا" وعاوزة وزني يرجع لأنو نحنا السودانيين ما بنحب كدة)    أكاديمية الفريع (A) تقلب الطاولة على أكاديمية الفريع (B) في ديربي الفريع الأهلي بالدامر    إجتماع ثلاثي مصغر لترتيب الاوضاع داخل الأكاديمية القضارف    دولة تسجل 16 ألف إصابة بسبب ذبح الأضاحي    حفل رائع في قرعة دورة الصداقة بالضعين    تواصل العمل في صيانة وتأهيل مباني هيئة البراعم والناشيئن بمحلية بورتسودان    تونس تفتح أبوابها لإيران.. ماذا يريد قيس سعيّد؟    يورو 2024: تعادل أول وتراجع بمعدل التسجيل 17 يونيو، 2024    حكومة دارفور: نحذر جميع قادة مليشيات قوات الدعم السريع في النزاع من مغبة جرائمهم واحترام القانون الدولي    جبريل: سائلاً المولى عز و جلّ أن يحقق لبلادنا العزيزة نصراً عاجلاً غير آجل على المليشيا الآثمة و على مرتزقتها و داعميها    بالأرقام.. السعودية تكشف أعداد و"تصنيفات" الحجاج في 2024    شاهد بالصور.. الحسناء السودانية "لوشي" تبهر المتابعين بإطلالة مثيرة في ليلة العيد والجمهور يتغزل: (بنت سمحة زي تجديد الإقامة)    الخراف السودانية تغزو أسواق القاهرة    كيف ستنقلب موازين العالم بسبب غزة وأوكرانيا؟    مدرب تشيلسي الأسبق يقترب من العودة للبريميرليج    ترامب: لست عنصرياً.. ولدي الكثير من "الأصدقاء السود"    مسجد الصخرات .. على صعيد عرفات عنده نزلت " اليوم أكملت لكم دينكم"    بالأرقام والتفاصيل.. بعد ارتفاع سعر الجنيه المصري مقابل السوداني تعرف على سعر "خروف" الأضحية السوداني في مصر وإقبال كبير من المواطنين السودانيين بالقاهرة على شرائه    بالفيديو.. تعرف على أسعار الأضحية في مدينة بورتسودان ومتابعون: (أسعار في حدود المعقول مقارنة بالأرقام الفلكية التي نسمع عنها على السوشيال ميديا)    رئيس وأعضاء مجلس السيادة يهنئون المنتخب القومي لكرة القدم    صالون لتدليك البقر في إندونيسيا قبل تقديمها أضحية في العيد    بعرض خيالي .. الاتحاد يسعى للظفر بخدمات " محمد صلاح "    غوغل تختبر ميزات جديدة لمكافحة سرقة الهواتف    امرأة تطلب 100 ألف درهم تعويضاً عن رسالة «واتس أب»    "فخور به".. أول تعليق لبايدن بعد إدانة نجله رسميا ..!    الهروب من الموت إلى الموت    ترامب معلقاً على إدانة هانتر: سينتهي عهد بايدن المحتال    شرطة مرور كسلا تنفذ برنامجا توعوية بدار اليتيم    4 عيوب بالأضحية لا تجيز ذبحها    قصة عصابة سودانية بالقاهرة تقودها فتاة ونجل طبيب شرعي شهير تنصب كمين لشاب سوداني بحي المهندسين.. اعتدوا عليه تحت تهديد السلاح ونهبوا أمواله والشرطة المصرية تلقي القبض عليهم    نداء مهم لجميع مرضى الكلى في السودان .. سارع بالتسجيل    شاهد بالفيديو.. الراقصة آية أفرو تهاجم شباب سودانيون تحرشوا بها أثناء تقديمها برنامج على الهواء بالسعودية وتطالب مصور البرنامج بتوجيه الكاميرا نحوهم: (صورهم كلهم ديل خرفان الترند)    الإمارات.. الإجراءات والضوابط المتعلقة بالحالات التي يسمح فيها بالإجهاض    الإعدام شنقاً حتى الموت لشرطى بإدارة الأمن والمعلومات    نصائح مهمة لنوم أفضل    إغلاق مطعم مخالف لقانون الأغذية بالوكرة    شرطة بلدية القضارف تنظم حملات مشتركة لإزالة الظواهر السالبة    التضخم في مصر.. ارتفاع متوقع تحت تأثير زيادات الخبز والوقود والكهرباء    إجتماع بين وزير الصحة الإتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    أمسية شعرية للشاعر البحريني قاسم حداد في "شومان"    عودة قطاع شبيه الموصلات في الولايات المتحدة    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    من هو الأعمى؟!    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طمع الدنيا والآخرة
نشر في سودانيزاونلاين يوم 09 - 06 - 2013


الفاضل إحيمر/ أوتاوا
طمع الآخرة
عرف الناس " قدوره " رجلاً طيباً وبسيطاً ، طيباً جداً وبسيطاً جداً ، طيباً جداً وبسيطاً جداً لدرجة أنه في زمن القبح والغرابة هذا أباح بعض الناس غير الطيبين وغير البسيطين لأنفسهم أن يعتبرونه ساذجاً ودرويشاً بل عبيطاً وعاملوه على ذلك الأساس أو اللاأساس . لم يكن الناس يعرفون عن " قدوره " كثير شَيْءٌ وفي حقيقة الأمر لم يكن "قدوره" يهمهم في ثمة شئ حتى يعرفوا عنه أي شئ. كان الجميع ينادونه " قدوره" وكفى. الكبار والصغار، الرجال والنساء، الأثرياء والفقراء، الأخيار والأشرار حتى زوجته وأبنائه وبناته كانوا ينادونه ب" قدوره ". لم يسبق تلك ال" قدوره " يوماً ما لقب السيد أو الحاج، لم يُسمع أحدٌ يناديه يوماً ب"خالي" أو "عمى" و لم يتفضل أحد بأن يناديه يوماً ب" أبو محمد" مكنياً إياه بأكبر أبنائه. حتى " قدوره " نفسه لا يذكر متى كانت آخر مرة سمع فيها اسمه منسوباً لأبٍ وجد ، "عبد القادر الشيخ حاج أحمد " أو "عبد القادر" وحدها كاملة، ولقد كان الأمر عنده سيان.
كان " قدوره " يُرى دوماً مرتدياً قميصاً بلدياً وتحته سروالاً قصيراً يتدلى قليلاً إلى تحت ركبتيه ولا يكاد يستر الكثير من ساقيه المقوستين المعروقتين المشعرتين. في قدميه كان "قدوره" ينتعل حذاءا محلى الصنع قاتم اللون لا يعرف أحد إن كان ذلك لونه منذ أن اشتراه أم أن ذلك لوناً أكسبه إياه الزمن، إلا أن الجميع كانوا يعرفون أن الجلد الذي قُد منه ذلك الحذاء قطع تحت قدمي قدوره مسافات أطول بكثير من تلك التي قطعها عندما كان جلداً لدابة حية تسعى. كان "قدوره" يحلق كل شعر رأسه مرة كل أسبوعين ويضع عليه طاقية بسيطة كانت بيضاء يوماً ما. هكذا كان "قدوره" يُرى ليلاً ونهاراً ، صيفاً وشتاءا فى أفراح الناس وأتراحهم ولو أنه وضع يوماً ما جلباباً وعمامة لما عرفه أحد ولو ارتدى بنطالاً وقميصاً أفرنجياً لجزم الناس بأن دروشته قد دخلت طوراً جديداً و تحولت إلى جنون تام . كان الناس يميزون "قدوره" بملابسه تلك وبصوته المنخفض وابتسامته التي لا تكاد تفارق محياه والتي إن تحولت إلى ضحك، وقليلاً ما يحدث ذلك، تكون أقرب إلى الهمهمة والدمدمة منها إلى القهقهة والجلجلة .
كان "قدوره" وزوجته "سعدية" وأطفالهما الخمسة يسكنون في بيت شديد البؤس أقرب إلى أنقاض بيت منه إلى البيت رغم أن ذلك كان في قلب واحدٍ من الأحياء التي صارت راقية مؤخراً والتي أطلق عليه سكانها الجدد أسماءا مستوردة مثل كل شيئ في حياتهم وافترضوا أن ذلك يدل على الرقى والعظمة. كان جيرانه السابقون وبعض ممن يفترض أنهم أهله وعشيرته، المالكون الأصليون لتلك المنطقة، قد باعوا أرضهم التي توارثوها عن أجدادهم تحت ضغط الحاجة أو ضغوط السلطات ودعاوى التخطيط والتعمير ورحِّلوا مُكرهين إلى أطراف المدينة بانتظار ضغط حاجةٍ أو سلطات حكومية آخر ليرحًّلوا مجدداً إلى أطرافٍ أخرى بينما تمسك هو بأرضه ورفض التزحزح من مكانه لسببٍ بسيط هو أنه لم يكن يدري إلى أين يتوجه أن فرّط في أرضه تلك و إن درى فمن أين له بتكلفة الرحيل. إلى يمينه أقام الحاج "محجوب" تاجر البهارات والاسبيرات والعملة صرحاً من أربعة طوابق وإلى يساره شيًّد "الزين حمدون"، اللواء معاش والوزير والحاكم الإقليمي السابق والرئيس الحالي "للمؤسسة الوطنية للمواشي والدواجن" صرحاً آخراً من ثلاثة طوابق. كان "الحاج محجوب" و"اللواء م. الزين" شديدي الكره لبعضهما البعض إذ كان كلاهما يفترض أنه الأجدر بتزعم الحي واحتكار دائرة الضوء والنفوذ ومساحات الاهتمام فيه. أمرٌ آخر كان موضع تنافس ومصدر مشادات بين وجيهي الحي هو أن كلاً منهما كان يضع عينيه على المساحة التي يشغلها بيت "قدوره" ويتطلع إلى اليوم الذي يستجيب فيه " قدوره" للعرض الذي قدمه له ليبيع أرضه. كان كل من الوجيهين قد قدم لجاره ( الدرويش، الساذج) سعراً يقل كثيراً عن سعر السوق ولقد ظل "قدوره" يرفض ذلك السعر بإيعازٍ وتنويرٍ وتحريضٍ من أشخاص معينين بالحي لا يكنون أي قدر من المودة لا ل"الحاج محجوب" ولا لغريمه "اللواء م. الزين" وكان "الحاج محجوب" و"اللواء م. الزين" بدورهما يردان على ذلك بأن يصفا أولئك الأشخاص بأنهم "شيوعيون ملاحيد وكفرة فجره، فاشلين وحاقدين". لم يفهم " قدوره " تماماً ما عناه أحد متحذلقى الحي عندما وصف يوماً السعر المقدم من حاج "محجوب " بأنه مخزي وليس مجزى"، إلا أن العبارة أعجبت " قدوره " ولم ينتقص من إعجابه بها أنه فشل في أن يتذكرها ويعيدها على مسامع زوجته "سعدية" عندما أراد ذلك وتفوَّه بلفظٍ جعل زوجته تغطي وجهها حياءا بطرف طرحتها وتركض خارج الغرفة وتضحك ملء اشداقها كما لم تفعل منذ زمنٍ بعيد.
لم تكن ل"قدوره" حرفة ثابتة يتكسب منها فقد عمل في فترة ما حمالاً وحاول في فترة أخرى أن يعمل بياعاً متجولاً للخضر والفواكه كما أنه جرب أن يشتغل عامل يومية تابع لمجلس المنطقة وغير ذلك الكثير من الحرف الهامشية التي لم ينتشله أي منها من وهدة الفقر أو يحدث أي تعديل في وضعه الاجتماعي الذي ظل يلازمه ملازمة اسمه. الحرفة التي زاولها قدوره اكثر من غيرها والتي صار بسببها معروفاً لدى سكان المنطقة هي أنه كان يؤدى للكثيرين منهم، نظير دريهمات معدودة، الأعمال التي كانوا يترفعون عنها أو يستصعبونها مما أكسبه خبرات في أشغال بائسة عدة. علاوة على ذلك لم يحدث في الحي فرح أو كره إلا وكان "قدوره" هنالك طُلبت خدماته أم لم تطلب أوجر عليها أم لم يؤجر، شُكر عليها أم لم يشكر. هكذا كانت حياة " قدوره " تمضى، تتصرم أيامها مملة متشابهة كئيبة لا يكسر رتابتها سوى هجمات المرض التي لم تكن تجد من " قدوره " وأسرته أية مقاومة أو تبرم أو حتى اهتمام .
في نهار يوم غائظ الحر عاد "قدوره " إلى البيت مبكراً على غير عادته وقد كان بادياً عليه أنه لم يعد بإمكانه الاستمرار في مقاومة حمى "الملاريا" التي ألمت به ربما للمرة الخامسة في ذلك العام. كان جسد "قدوره" المهدود يتقد حرارة وجبينه يقطر عرقاً وساقاه لا يكادا يقويان على حمله. مستنداً على "سعدية" توجه إلي الغرفة الوحيدة بالدار وتهالك على سريرٍ بها وطلب وأسنانه تصطك برداً، أن توضع عليه كل الأغطية المتاحة بالبيت. أصابت حالة "قدوره" غير المألوفة "سعدية" بهلعٍ بالغ وفعلت تجاهها كل ما تستطيعه وتعرفه: رطبت جبين زوجها بخرقة مبتلة، مسحت صدره وشفتيه بليمونة " استعارتها " من زوجة الحاج "محجوب" ... وعندما عادت إليه بعد لحظات تحمل كوب شاي وفتافيت بعض أقراص "الأسبرين" كان "قدوره" يغط في نوم عميق أو هكذا بدى لها. جلست " سعدية" على حافة السرير وظلت ترمق زوجها في حنانٍ شديد وعطفٍ بالغ وقتاً ليس بالقصير ثم شرد خاطرها بعد ذلك وقتا ليس بالأقصر. اخرج "سعدية" من شرودها انتفاض زوجها بعنف مريتن عزتهما إلى حمى الملاريا وعندما كفَّ عن الانتفاض انسحبت في هدوء شديد من الغرفة وهي لا تكف عن الدعاء "يا شافي يا كافي.. يا شافي يا كافي يا معافي"
في رقدة " قدوره" تلك فاضت روحه إلى بارئها، ولأنه كان رجلاً طيباً تكاد صحيفة أعماله أن تخلو من السيئات فقد حوسب محاسبة فورية وحساباً يسيراً، بؤي بعدهما المكان الذي يليق به من الجنان. وهو منبهر بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، دنا منه ملكٌ كريم ورحب به وفي وقار شديد سأله ماذا يتمنى وما هو مبتغاه. و"قدوره" بين المكذب والمصدق وبصوت شابه الكثير من التردد وغير قليل من الحياء تفوه بكلامٍ كثيرٍ متداخل غير مرتب فهم منه الملَك أن "قدوره " يريد أن يعود إلى الدنيا لفترة وجيزة وأنه يريد أن يبسط له في تلك الفترة في الرزق وتُهيأ له أسباب القوة و المنعة و الجاه ... و... و ..... وقبل أن يكمل حديثه كان الملك الكريم قد فهم ونقل ما قاله " قدوره " وما لم يقله. قُضى بأن يكون ل"قدوره" ما أراد، أن يُردًّ إلى الحياة الدنيا، أن يُبسط له في الرزق، أن تهيأ له كل أسباب القوة والعزة و الجاه .... و أن تكون البداية بأن تُمحى ذاكرته تماما مما حدث له وأن يفيق شخصاً آخرا يعيش حياة مغايرة تماما.
أفاق "قدوره" على صوت " سعدية " وهي تدعو شخصاً ما للتفضل إلى داخل الدار والجلوس وذلك الشخص يرد عليها بأنه لا يريد أن يزعجهم و أنه أراد فقط الاطمئنان على صحة "أخيه" قدوره" إذ علم من " الحاجة " أنه معتل ... وعبارات أخرى لم يتبينها "قدوره " وإن كان قد عرف أن الصوت لجاره الحاج "محجوب". و"سعدية" في طريقها إلى الغرفة لإيقاظ زوجها صادفها عند باب الغرفة وسرها أنه بدا احسن حالاً مما كان عليه نهار ذلك اليوم بل نهار أي يوم آخر.
سلًّم الحاج "محجوب" على "قدوره" بحرارةٍ شديدة ولامه على تقصيره في زيارتهم خاصة وهم جيران جنب. اطمأن على صحته وخرج إلى سيارته الرابضة بين بوابة قصره وباب بيت "قدوره" وعاد وهو يحمل بيد سلة ملئت فاكهة وباليد الأخرى صندوقين صغيرين في كل منهما نوع من أدوية الملاريا . بعد أن شرح ل "قدوره" كيفية تناول كل من الدواءين شدد على ضرورة أن ينتظم في تناولهما وأضاف أنه إن لم تتحسن حالته في ظرف ثلاثة أيام فسوف يصحبه إلى طبيبٍ صديقٍ له. والحاج "محجوب" يغادر منزل " قدوره " همس في أذنه أن يتعافى سريعاً لأن لديه له أخباراً سارة .
تابعت "سعدية" كل ذلك وهي تقف غير بعيدٍ من باب الغرفة وسمعت جلَّ ما دار بين "محجوب " وزوجها فادهشها ما كان يجرى وحيَرها تماماً . لم يحدث للحاج "محجوب" أن زارهم ولا في الأعياد. المرة الوحيدة التي دخل فيها بيتهم كانت لإلقاء نظرة على المنزل من الداخل ومعرفة مساحته لتحديد سعر "مناسب" له بغية شرائه . ربطت "سعدية" الزيارة بذلك الأمر لكن كل ذلك لم يبرر لها اللطف والرقة الشديدين اللذين أبداهما الحاج "محجوب". الذي كان اكثر مدعاة لحيرتها هو تعامل زوجها على غير عادته مع "محجوب" بتعالٍ و برودٍ شديدين ولم تجد تفسيراً لذلك سوى أن تكون حمى الملاريا قد "طارت" إلى رأسه وأثَّرت على تفكيره . لم ينته اندهاش "سعدية" وحيرتها البالغة عند ذلك إذ فاجأها " قدوره " ربما لأول مرة في حياته برفضه في جفاء التحدث معها حول ما حدث فانصرفت لشئون بيتها وأولادها وهى لا تكف بين البرهة والأخرى عن ترديد الدعاء " اللهم اجعله خيراً ". بالطبع لم تكن "سعدية" تدري أن "قدوره" أفاق من نومه أو بالأحرى من ميتته ورُد ألي الحياة شخصاً جديداً وفي ظروف جديدة تماماً.
في صباح ذلك اليوم كان سعر الدولار قد قفز خمسمائة جنيها وبما أن الحاج "محجوب" كان يتاجر فيما يربو على المليونى دولار فقد زادت ثروته بحوالي البليون جنيهاً. ليس ذلك فحسب إذ أن تغير سعر الدولار ارتفاعاً أو هبوطاً يعنى بالنسبة للحاج "محجوب" ورفاق مهنته أن تزيد أسعار السلع أضعافاً مضاعفة. كأن أول ما فكر فيه الحاج "محجوب" إزاء هذا الزيادة الفلكية الأرقام في ثروته أن يشترى من " قدوره" أرضه بأي سعر كان. بما أن "قدوره" كان قد أفاق من "نومته" تلك شخصاً آخراً فانه بدلاً عن السعي عندما تعافى لمقابلة الحاج "محجوب" ذهب إلى اللواء معاش " حمدون" وابلغه بزيارة "محجوب" ووثوقه التام أن الأمر مرتبط بشراء الأرض. لحسن حظ " قدوره" كان اللواء معاش "حمدون" قد أرسى قبل أيامٍ من خلال اللجنة التي يرأسها عطاء إنشاء مشروع "الخلاص" لانتاج وتسويق الماشية والدواجن وصناعة الأعلاف لشركة "فالصو كو" الإيطالية وكان الحافز الذي تلقاه من الشركة مكوناً من خمسة أرقام باليورو فلم يتردد في أن يذكر ل"قدوره" انه سوف يعطيه عشرين مليون جنيهاً فوق عرض "محجوب". أشاع "قدوره" أنه سوف يقسم أرضه إلى ثلاثة قطع يبيع اثنتين منهما ويبنى بعائدهما منزلاً في الثالثة، و أن مغترباً عرض عليه أربعمائة مليونا وشركة اجنبية عرضت عليه خمسمائة وغير ذلك من الإفادات التي تفنن فيها لرفع قيمة أرضه وتأجيج حرب الأسعار بين الغريمين الراغبين فيها والمستعدين لدفع أي ثمن. بعد حرب أسعار طاحنة بين الحاج "محجوب" و اللواء "حمدون" صارت الأرض من نصيب "محجوب". كان السعر الذي تقاضاه ثلاثمائة وستين مليونا من الجنيهات ومنزلاً كبيراً بالقرب من السوق كان الحاج "محجوب" يستخدمه كمخزن للتوابل صار ملكا "لقدوره" بكل ما فيه من توابل إذ أن الحاج "محجوب" كان قد قرر ترك تلك التجارة نهائيا.
كغيرها من الأشياء زادت أسعار البهارات زيادة جنونية ولقد تضافرت عدة عوامل جعلت من "قدوره" في أقل من عامين اكبر تاجر بهارات وصاحب أكبر لحية في المدينة. أتاح الوضع الاجتماعي والمالي الجديد ل" قدوره " أن يتخير من يصاهر وفي ظرف ثلاثة أعوام كان قد زوَّج لإثنين من أبنائه واثنتين من بناته ولم يراع "قدوره" في أي من تلك الزيجات سوى المصلحة المادية والمنفعة بل أنه توَج كل ذلك بأن تزوج مرة ثانية وثالثة وكانت كلٌّ من الزيجتين صفقة تجارية ناجحة. زيجته الرابعة كانت من جارة لهم كانت تكلفه أيام بؤسه بأن "يكسّر" لها حطب "الشاف" و"الطلح" لزوم الدخان وكثيراً ما فعل ذلك وهي تغدو وتروح أمامه وليس عليها سوى ثوب يشف عن ما تحته أو "فركة قرمصيص" تنحني وتنثني حيثما ينحني وينثني جسد الجارة الغض البض و"قدوره" يسترق النظر إليها يحاول أن يقلع عينيه عنها فلا تنقلع وأن يبلع ريقه فلا ينبلع والفأس بيده يخطئ بها الحطب اكثر مما يصيبه. أغرى الجارة القديمة وأغواها، ولم يكن ذلك بالصعب إذ عرف عنها أنها كانت "طروب لعوب" وقد أشاع بعض خبثاء الحي أن زوجها قبض من "قدوره" خلو رجل مهولاً. أما "سعدية" فقد لخَّص "قدوره" موقفه منها في إفادتها بأنه لن يقصِّر في حقها أو حق أبنائها وعدا ذلك فليس من حقها أن تسأله عما يفعل. بالفعل لم يقصِّر إزاءها فلقد أمضى ثلاثة أمسيات كاملة بدارها عندما أختارها الرب إلى جواره اثر علة لم تمهلها طويلا ًونحر عجلاً صدقة على روحها.
أحاط "قدوره" نفسه أو أحاطت به بطانة سوء علمته في شهور معدودات كل الموبقات. ولأن كل شئ كان جديداً بالنسبة له ولأن "الجديد شديد" فقد اقبل على كل شئ بشرهٍ ونهمٍ شديدين فبزَّ كل معلميه و تفوق في السفه والمجون على شياطين الجن والأنس. في مجال عمله باع واشترى ذمماً، رشا وافسد ضمائر، دمَّر كل منافسٍ وحطم كل من توهم أنه قد يغدو منافساً له، طوَّح بآمالٍ وأغلق بيوتاً واسلم عائلين ومعولين للبوار والضياع، ساعده في ذلك انتماؤه للحزب الحاكم، وكان يجد في كل ذلك لذة لا تعدلها لذة ومتعة لا تفوقها متعة .
حرص "قدوره" ، الذي أضحى دون حج أو صلاة أو زكاة الحاج "عبد القادر" أحيانا والشيخ "عبد القادر" أحيانا أخرى، حرص على أن يسدل ستاراً كثيفاً على ماضيه ولقد كانت ابشع مظاهر ذلك أنه نسى تماماً جيرانه القدامى وانه رد رداً قبيحاً من سعى منهم إليه مراعاة لمودة قديمة أو قصده في حاجة من حوائج الدنيا غدا "قدوره" اقدر الناس على تلبيتها. كان لقدوره همٌ واحد أن يصير الأغنى، الأقوى‎، الأعز والأكثر جاهاً وسطوة والأكثر مجوناً وفجوراً وفسوقاً، وقد كان له كل ما أراد و فوق ما أراد في فترة لم تتجاوز العشر سنوات. كيف لا وكان قد وعِد بأن ينال ما تمنى. في خلال تلك السنوات أضحى "قدوره " موضع حديث الناس، البعيدين والقريبين، الذين يعرفونه حقاً والذين لم تتعد معرفتهم به السمع. غدا أسطورة نسجت حولها وحول تبدل حاله العديد من الحكايات. من الناس من قال بأنه جاءته ليلة القدر ومنهم من قال بأنه صار له قرين من الجن ومنهم من قال بأنه عثر على كنز لا يفنى. كثيرون تمنوا حاله وكثيرون من كان الأمر بالنسبة لهم لغزاً لم يثر دهشتهم بقدر ما أثار حسدهم أو غبطتهم.
في نهار آخر جمعة من شهر رمضان وبينما كان أمام مسجد " البركة" يخطب في جمعٍ ضم المنتبهين والساهين والحالمين بل بعض الغاطين في سباتٍ عميق، انتبه المصلون على صوت ارتطام سيارة شديد بشيء خارج المسجد ثم أصوات اختلط فيها الأسى بالاستغاثة والاستعاذة بالهلع بالرعب والذعر فهرع الجميع إلى الشارع ليجدوا سيارة كانت فارهة قبل أن تتحطم تماماً وقد تناثرت حولها عدة أشياء من بينها أقراص "فياغرا" و"سيالس" وزجاجات عبوات صغيرة من "الويسكي" و"الكونياك". عرف الناس أن السائق كان "الحاج عبد القادر" فانطلق بعضه لابلاغ ذويه وبقى الآخر بالقرب من جثته يستعيذ بالله ويحاول سترها بينما انصرف البعض الآخر لجمع ما تبعثر من أغراض كانت بالسيارة .
لأن أعمال "عبد القادر" كانت سيئة تماماً بل مبالغة في السوء، ولأنه منذ عودته إلى الفانية لم يعمل مثقال ذرة خيراً يره وأمضى جلّ وقته منفلتاً من شرٍ إلى شرٍ أكبر وخالصاً من إثم إلى إثم أعظم، فقد عجل بحسابه وحوسب حساباً عسيراً بؤى بعده مكانا يليق به في "لظى" ولقد تمّ كل ذلك قبل أن تزاح جثته عن قارعة الطريق.
في لحظات تذكر "قدوره" كل ما حدث له خلال حياته الأولى. استرجع كيف أنه أمضاها كلها صلاحاً وصبراً وتقوى وكيف أنه كوفئ على ذلك فأُنزل منزلاً كريماً عندما توفى للمرة الأولى وأنه طلب أن يرد الى الدنيا وأن يمكَّن له فيها و...... و.........ولحاجةٍ في نفسه لم يشأ أن يتذكر حياته الثانية وما فعله خلالها رغم أن كل ذلك كان قابعاً في مكانٍ ما من خاطره وتشهد عليه كل جوارحه و حواسه. استجمع "قدوره" قواه و دنا من واحد من خزنة جهنم وحراسها وفي صوتٍ خائر ذليل حاول تذكير الحارس بما دار بينه و بين آخر ملك كريم التقى به بالفردوس وما اتفقا عليه واختتم عرض حاله بأن طلب أن يحول إلى الجنة أو على الأقل يرد إلى الدنيا كما رُدَّ إليها مرة من الجنة فيعمل صالحا و ...... قبل أن يكمل حديثه زعق فيه الملك الحارس زعقة كاد أن يطير لها عقله وينفرض لها لبه فهم من خلال فحيحها وصريرها أن من يبعثون إليهم في سقر لا يتمنون ولا يسألون ما ذا يريدون. و قبل أن يتفوه "قدوره " بكلمة أخرى خبطه الملك خبطة مهولة في أم رأسه هوت به خمسين ألف ذراعٍ وألقته في قاع اللوَّاحة للبشر التي لا تبقي ولا تذر التي سيكون له بها المستقر إلى حين أن يُعاد في أمره النظر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.