د.علي عبدالقادر/ باحث أكاديمي/ باريس وصلني رد على مقالي الأخير "إنقاذ الوطن من بروفيسورات الإنقاذ" من قبل دكتورة وباحثة ولعلها من القليلين القابضين على جمر القضية الوطنية والعاملين في إخلاص وتجرد لخير السودان، نحسبها كذلك ولا نزكي على الله أحد. أسدت لي النصيحة بأن أصرف وقتي في الاستزادة من العلم واترك السياسة. واشكرها علي هذه النصيحة الغالية، وأحب أن أوضح لها بأنني لست سياسيا ولا من محبي السياسة ولكن الواجب الوطني يحتم على أن أساهم بحسب معرفتي البسيطة (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85] في لفت الأنظار لأخطاء جوهرية نمارسها جميعا عن وعي أو عدم إدراك، وتلك الأفعال هي التي تدفع ببلادنا بشدة نحو الهاوية. ومن بين تلك الأخطاء عدم إسداؤنا النصح بما فيه الخير للجميع، رغم قوله تعالى ) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [آل عمران:110]. ، وكذلك أهلنا قديما قالوا " الما داراك ما لامك" . أذن ما نقوله هو من باب النصيحة لوجه الله، خاصة وأننا من قوم لا ناقة لنا ولا جمل في الحكومة أو المعارضة ، بل النصح من باب قوله "ص" (ما من عبد يسترعيه اللَّه رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم اللَّه عليه الجنة) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وفي رواية: (فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة). وكذلك من باب " لا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيكم إن لم تسمعوها". صحيح تختلف الأساليب في النصح والذي قد يتدرج في الفعلية التنفيذية بحسب النص النبوي )من راء منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان(. ولما كنا من دعاة الإصلاح السلمي ومن أمة الوسط " خير الأمور أوسطها" ، فكان خيار اللسان والبيان أي الكلمة الطيبة هو خيارنا، التزاماَ منا بقوله تعالي …) وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(…[النحل:125]، وقوله تعالى )اذهبا إلى فرعون إنه طغى وقولا له قولا ليناً(. (طه.43). كذلك يقوم الشعب بالنصح والإرشاد ما استطاع إلى ذلك سبيلاَ لمن يود تولي الحكم بحسبان أن الأمر أمانة يتحملها الحاكم ويحاسب عليها من قبل الله. أما الشغل الشاغل لغالب الشعب فهو ما يعبر عنه الإخوة الجزائريون بحزب H.T.M بمعنى "حشيشة طالبة معيشة" ويعنون إن الشعب همه هو الحصول على الضرورات الحياتية الأولى: أي الغذاء والأمن والصحة والتعليم. قال "ص" )مَن بات آمنًا في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنّما حِيزت له الدُّنيا بحذافيرها(. إذن بحسن نية وبعد نظر وفطرة سليمة يترك المواطنون للحكومة والمعارضة ولكل من يأنس في نفسه الكفاءة للدخول في تلك المدافعة السياسية واثقين بأن الجميع سيعرض عنها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة ) لا تطلب الإمارة، فإنك إن طلبتها فأوتيتها، وكلت إليها، وإن لم تطلبها أعنت عليها (. والمحصلة أن تولي الحكم هو أمانة ومسؤولية يسأل عنها العبد، قال تعالى ) إِنَّا عَرَضْنَا 0لأَمَانَةَ عَلَى 0لسَّمَٰوَٰتِ وَ0لأَرْضِ وَ0لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا 0لإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً([ الأحزاب : 72 ]. ولا ينسى من يتقدم لتولى الحكم كدليل علي ثقل تلك الأمانة أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان يأتي إلى إبل الصدقة التي فيها جرب ويدهنها بالقطر بيده، ويقول "لو أن بغلة عثرت بالعراق لخشيت أن يسألني الله عنها: لما لم تسو لها الطريق يا عمر". إذن من يتجرأ ويستقوى على حمل تلك المسؤولية والمهمة التكليفية وليست التشريفية وهو مستعد للمحاسبة أمام الله يوم القيامة فليتقدم للحكم. قال "ص" ) يا أباذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة(. ولعل عدم حبنا للسياسة يجعلنا لا نؤمن بالمعجزة السياسية ولكننا نومن بإمكانية الإصلاح وذلك عند استيعاب الجميع حكومةً ومعارضةً للمعاني الحقيقية لكلمة الوطنية، والوصول لقناعة أن الوطن فوق الجميع و مصلحته قبل وفوق مصالحهم، وعندها يأتي التنافس الشريف ) وفي ذلك فليتنافس المتنافسون( (المطففين.26). ويكون هدفهما معا هو المساهمة الايجابية في تحقيق المتطلبات الأولى للمواطن البسيط التي أشرنا إليها أعلاه، أي الغذاء والأمن والصحة والتعليم. وليكن التسابق بعد ذلك في إقناع المواطن ببرامج واقعية تحقق له المزيد من الرخاء من باب الإحساس بالقدرة على خدمة الآخرين" قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" . إذن الأمر ليس صراع على السلطة وبحث عن الوجاهة والعظمة وجمع الأموال. قال عمر(رضي) عندما أعجبته نفسه وأعجبته الخلافة "يا ابن الخطاب كنت ترعى غنيمات على قراريط لبني مخزوم". وسئل بعض الحكماء، من أنعم الناس عيشاً؟ قال : "بدن في التراب قد أمن العقاب ينتظر الثواب". اختلاف الناس وتباينهم ودفعهم ومدافعتهم البعض للبعض الآخر يجب أن يكون اختلاف تنوع ورحمة إذ لولاه لعطلت بيع وصلوات ومساجد، والتسابق إلى السلطة هو أولاً وأخيراً لمنفعة الآخرين وقد جاء في الأثر "ينزع الله بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن"، والوصول إلى السلطة يكون بطرق سلمية ومشروعة كفلها الدستور كحقوق وحريات وليس بطرق غير مشروعة تمّت قولبتها وتمريرها "تحت تحت" لإعطاء شيء من الشرعية الصورية. يبقى أن من قوانين الطبيعة أن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه، ولما كان الحماس المفرط وعدم الوسطية هو طابع للبعض في النظام الحاكم، وجدنا نفس الطبع الحاد فيمن عارض النظام ، وهكذا تقوقع كل من الطرفين في خندقه وتحصن كل منهما بكل الأدلة والأسانيد المبررة لموقفه "وكل بما لديه فرحون"، ورأى أن الآخر خصم يجب منازلته بلا هوادة والقضاء عليه إن أمكن. ناسياً أن هذا الخصم في الرأي والاتجاه الفكري أو الميل السياسي حاكماً كان أم معارضاً أم محكوماً قد يكون شقيقه أو ابن عمه أو جاره وعلى أقل الفروض ذلك الآخر هو من أبناء الوطن وله نفس الحقوق في الوطن، وإلا يكون قد كبا كبوة ذلك السياسي رحمة الله عليه القائل "البلد بلدنا ونحن أسيادها" فجعل الوطن حكراً له ولزمرته فقط! وبذلك تجد أن البعض يضيق مفهوم الوطنية في صراع أفيال ما بين حكومة النخب ومعارضة النخب ومن حولهم من أهل السياسة في حين أن بقية الشعب لم يسألهم شيئا ولم يختارهم ولم يفوضهم لا للحكم ولا للمعارضة نيابة عنه، خاصة وأنه مغيب ويعتبر كل من الحكومة وكذلك المعارضة بأنه وصي على ذلك الشعب. إذن التنافس غير الشريف أو المدافعة اللا سلمية تبرهن على شيء من التدهور من سيء إلى أسوأ، أي نوع من " كل عام ترزلون" في الجانب السياسي . لذلك يصر بعض الرافضين لنظام الحكم بأن إسقاط الحكومة هو غاية في حد ذاته وأن الأمر تحدي و"رجالة" فتعددت الانقلابات العسكرية، انقلاب إسماعيل كبيده في 1957م ضد الأزهري، انقلاب عبود في 1958م ضد الأزهري والاميرلاي عبدالله خليل، انقلاب أحمد عبد الوهاب وعبد الرحيم شنان ومحي الدين احمد عبد الله ضد عبود في 1959م، انقلاب الرشيد الطاهر بكر ضد عبود، انقلاب نميري في 1969م، انقلاب هاشم العطا في 1971م، انقلاب حسن حسين في 1975م، بل وصل التحدي بالبعض إلى أن يحشد الآلاف ويعبر الصحاري ويغزو الخرطوم كما حدث في 1976م أو ما سمي حينها أحداث المرتزقة أو انقلاب محمد نور سعد، رحمة الله عليهم جميعاً ، وكانت نتيجة ما سبق هو أن حصد الموت مئات الشباب، وهو نفس الأمر الذي تكرر في عام 2009م في واقعة أمدرمان! بنفس القدر من العنف الدموي يعتقد الجانب الحاكم في السابق أو الحاضر بأنه يحكم بتفويض إلهي" الزارعنا غير الله اليقلعنا"، وإنه لا يحق لأحد أن ينازعه السلطة وأن الإبادة هي جزاء من يجرؤ على معارضته أو مقاومته مما أدى لإعدامات الشجرة، وإعدامات رمضان 1992م. بل تجد عقلية الإقصاء للآخر قد تخفف إلى شيء من تصفية الحسابات، كالإعدام الوظيفي وخير مثال هو لوائح الفصل للصالح العام. ومثال آخر وهو ما حدث مؤخراً من تخبط أداري ومن أعلى قمة هرم في الدولة، فكيف يستقيم عقلاً أن يقوم رئيس جمهورية بفصل رئيس جامعة من العمل؟ ومع ذلك نحن نعتقد إن القضية والمحك ليس في فساد الإنقاذ ورجالها ولا في صلاحية أو عدم صلاحية المعارضة الداخلية أو الخارجية أو أي جهة أخرى! بل الأمر أعظم من أن يكون تنافس على السلطة من أجل السلطة، القضية هي من يعمل لمصلحة الوطن وكيف يمكن أن نحب تلك الأرض الطاهرة من حلفا إلي نيمولى ونعمل لها في إخلاص بما يرضى الله، قال الفضيل بن عياض "إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً". إذن الأمر ليس في تغيير الحكومة وتبديل زيد بعبيد ولكن الأمر هو بناء وطن، ليس المهم من هو الحاكم ومن هو المحكوم، كان عمر بن الخطاب جندي في جيش أسامة بن زيد ابن الثالثة عشر، فأستأذن أبو بكر الصديق خليفة المسلمين أسامة قائلاً " إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل". المهم هو خدمة الوطن من موقع قائد الجيش أو من موقع الجندي، قال خالد بن الوليد عندما عزل من قيادة الجيش ووليت القيادة لأبي عبيدة بن الجراح (والله لو أمِّر على أمير المؤمنين امرأة لسمعت وأطعت)، والكل يعلم بجواز إمامة المفضول في وجود الأفضل. و نقول للحكومة والمعارضة بأن جزء من الأمانة التي خشيتها السموات والأرض هنا هي قضية بناء الوطن أو على الأقل حماية مكتسباته والحد من دماره الحالي، وهذا البناء يبدأ ببناء الأسرة السليمة التي تضع يدها في يد السلم التعليمي ومناهجه التربوية لتنشئة الفرد الصالح. ولكن إذا كانت الأسرة لا تملك قوت يومها ولا الحق في التعليم أو الحق في العلاج فهي أسرة غير مؤهلة لإعداد فرد صالح، وإذا كان من الناحية المقابلة السلم التعليمي "خربان" ولا يساعد على تأهيل أطفالنا وشبابنا رغم مقدراتهم العقلية الكبيرة فكيف يبنى الوطن!؟ وبرغم عدم تخصصنا في الأمر، ألا أننا نود طرح وجهة نظر أمام العلماء والمختصين والمسئولين فيما يتعلق بالسلم التعليمي، تمً أول تعديل للسلم التعليمي من قبل المرحوم الدكتور محي الدين صابر أول وزير للتربية والتعليم في حكومة مايو، ثم جاءت الإنقاذ وبدلت سلم محي الدين صابر. وجهة نظرنا بأن السلم التعليمي الأول قبل التعديلات هو الأنسب لنا في هذه المرحلة أي أربعة سنوات ابتدائية وأربعة سنوات وسطى وأربعة سنوات ثانوي! لأن ذلك السلم التعليمي وضع الأسس الصحيحة ورفد الوطن بكفاءات عالية من الرجال والنساء مما خرج عباقرة ساهموا بالقدح المُعلًى في نهضة وبناء الخليج إدارياً ومؤسساتياً وعمرانياً ونرمز لتلك الأجيال الممتدة من قبل كمال حمزة وصولاً إلى البروفيسور. معز بخيت على سبيل المثال. بل يكفينا شرفاً المرحوم البروفيسور محجوب عبيد عالم الذرة بأمريكا والدكتورة وداد المحبوب عالمة الفضاء بوكالة "ناسا" الامريكية، والبروفيسور ود البنا ببلجيكا، والدكتور عباس الأمين والدكتور يوسف الياس بفرنسا وهذا غيض من فيض. ثم يجب إعادة النظر في حصص التربية الوطنية العاملة من أجل غرس حب الوطن وليس حب النظام الحاكم في نفوس الأطفال وجعلها مادة أساسية في الشهادة السودانية ذات معادل ضرب اكبر من معادل اللغة العربية والرياضيات والمواد الأخرى. وتصاحب هذه الدروس النظرية زيارات وسفريات منظمة فيقوم أطفال وشباب الفاشر بقضاء جزء من العطلة الدراسية في حلفا القديمة والمساعدة على تجديد المباني المدرسية وصيانتها ويقوم أطفال سنكات بزيارة الرنك والمساهمة في صيانة مدارسها أو فليكن هذا الأمر هو الخدمة الإلزامية في جزء من عطلات سنوات المرحلة الثانوية الثلاث وهكذا يكون الشاب قد زار أركان الوطن الأربعة وبذل جهده وسقى بعرقه ارض تلك الجهة وأحب أهلها وأحبوه، فيعرف الشاب بلاده ويحبها وتلك هي الوطنية الحقة. وإلا! قل لي بربك إذا كان الولاة وبعض المسئولين الحكوميين وبعض أفراد المعارضة لا يعرف أين توجد منطقة الفولة بالسودان ويتسأل "وهي الفاشر دي ذاتا وين"، أو يردد قول ذلك المسئول السياسي عند ضياعه ما بين الخرطوم بحري ومنطقة العيلفون "بالله السودان دا كبير كدا"! هل يمكن أن يشعر بالانتماء أو الحب لشيء مجهول له!؟ ناهيك عن الإخلاص له والشعور بالوطنية. وفي الختام نترحم على كاتبنا العظيم الطيب صالح ونجيب على تساؤله المشهور "من أين أتى هؤلاء" ! إجابة ملؤها اليقين بأن الحكومة وكذلك المعارضة "مننا وفينا" و"الله يكضب الشينة". [email protected]