[email protected] عندما فتحت موقع سودانيز أون لاين و اصطدمت عيناي بعبارة " For Sale" وقبل أن أتيقن إلى أن الموقع قد تعرض لسطو "هكري" انتابني حزن عميق على فقدان هذه الشجرة الوريفة التي يستظل بظلها حملة الأقلام والآراء و الأفكار على اختلاف مشاربهم و انتماءاتهم السياسية، يهرع إليها قراء الداخل و يلوذ بظلها قراء المنافي و المهاجر و البلدان هرباً من غربة ظاهرها الرحمة و باطنها العذاب و الضياع و اليتم. و هل هناك يُتم أقسى من أن يفارق المرء داره و عشيرته و عزه و عزوته ومنبته وهويته ليلتقط رزقه من موائد الغرباء ؟ على أنني أقر و اعترف أن إحساسي بالأسى لفقدان هذا الموقع قد طغى عليه "العجب" من أقدار تصر على أن تترصدني و تخرج لي لسانها ساخرةً أن أرفع راية التسليم وأذهب لحال سبيلي .. و "حال سبيلي" هذا يعني أن أعتزل الكتابة و أكتفي بمطالعة و قراءة ما يكتبه الآخرون . و حتى يتمكن القارئ من فهم الدوافع التي دعتني لسطر هذه الكلمات ينبغي عليّ أن أسرد قصتي أو بالأحرى رحلتي الغريبة مع الحروف . حضرت مع زوجي في سبتمبر من عام 1978 إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، و في أكتوبر من عام 1988 وبعد أن انتظم أبنائي في الدراسة دفعني الفراغ و اقتراح البعض أن أسعى للعمل في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية. كانت تهيمن على تلك المؤسسة الصحفية- آنذاك- جنسية بعينها جعلت من الصحيفة قلعة حصينة ليس من السهل اختراقها(ممنوع الاقتراب أو التصوير) فمجرد أن ترصد أجهزة الرادار خطوات زائر في الطريق حتى تشرع تلك المجموعة في شحذ أسلحتها ووضع كافة أنواع العراقيل و العقبات أمام الزائر إلى أن يصيبه اليأس و يرد على عقبيه خاسئاً وهو كسير. و قبل أن استطرد في الحديث عن كيفية اختراقي لذلك الحصن المنيع أقول أنني قد تسللت إليه عبر بوابة مجلة "ماجد" للأطفال إذ أنني قد عملت لفترة محررة بمجلة "الصبيان" التابعة لدار النشر التربوي بالخرطوم وهكذا تمكنت بما معي من شهادة خبرة و بمعاونة صديقة تعمل في المؤسسة تمكنت من "تسريب" قصة للأطفال اطلع عليها رئيس تحرير المجلة و تم نشرها في موقع قصة العدد ...عاودت عن طريق تلك الصديقة" تسريب" قصة أخرى أثارت انتباه و فضول الرجل فأرسل في طلبي. و بعد التحايا و السلام أخبرني انه عادة لا يحرص على توظيف " الستات"، و لكنه سيتجاوز عن ذلك الشرط بالنسبة لشخصي. بعد عدة أيام اتصل رئيس تحرير المجلة ليبلغني أن المسئولين اعتذروا بحجة أن ميزانية المجلة لا تسمح بتعيين محررين جدد و لكن يمكنني أن أشارك بكتابة قصة العدد مقابل عائد مادي مجزٍ . وفعلاً واظبت على كتابة قصة العدد في المجلة و لما كانت أطماع ابن آدم لا تقف عند حد فقد تمكنت و عن طريق تلك الصديقة أيضاً من "تسريب" مقالة إلى الصحيفة الأم -جريدة الاتحاد الإماراتية- مع التأكيد "لأولى الأمر" أنني لا ابغي من وراء نشرها جزاءً و لا شكوراً. وفعلاً اطلع عليها رئيس تحرير الصحيفة و"أفتى" بصلاحيتها. أرسلت مقالاً ثانياً تم على إثره إدراجي ضمن كتاب "واحة" صحيفة الاتحاد الإمارتية، و هم نخبة مختارة من الكتاب و الأدباء من مختلف البلدان العربية أمثال المرحوم الدكتور نجيب الكيلاني و الدكتور الزين عباس عمارة و الأستاذ علي أبو الريش و آخرون. و بما أنني كنت العنصر النسائي الوحيد وسط تلك المجموعة فقد أمدني ذلك بطاقة من الحماس يحتاجها من كان مثلي ممن يميلون إلى الكسل و يفضلون الجلوس في قاعة القراء و هكذا واصلت الكتابة في مجلة ماجد وفى صحيفة الاتحاد الإماراتية لمدة عامين إلى أن قام صدام حسين بغزوه المفاجئ لدولة الكويت في عام 1990، فتغير تبويب الجريدة تبعاً لمستجدات الحرب و توقفت"واحة" صحيفة الاتحاد نهائياً. ترك توقف "واحة" صحيفة الاتحاد أثراً سلبياً على رغبتي في الكتابة بوجه عام فتوقفت أيضاً عن المشاركة بكتابة قصة العدد لمجلة ماجد للأطفال رغم محاولات رئيس التحرير المتكررة في أن أواصل معهم و لكنني كنت قد فقدت حماسي و ركنت إلى الكسل. و بهذه المناسبة سأظل اذكر دوماً و بكثير من الشكر و الامتنان فضل الأخ الكريم محمود صالح عثمان صالح راعي مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي الذي شجعني على جمع مقالاتي المنشورة في كل من صحيفة الاتحاد الإماراتية و صحيفة الخرطوم و تكفل المركز بنشرها في كتاب تحت عنوان "ذكريات و خواطر" كما نشر لي المركز أيضاً كتاباً للأطفال بعنوان "القافلة" تضمن مجموعة القصص التي نشرتها بمجلة ماجد للأطفال. الصحيفة الثانية التي مارست فيها الكتابة مجددا كانت جريدة "الخرطوم" فعندما التحق اثنان من أبنائي في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة قررت و زوجي أن أبقى معهما لبعض الوقت إلى أن تستقيم أمورهما. و لما كانت جريدة "الخرطوم" في ذلك الوقت تصدر من القاهرة فقد حملت معي تجربتي المبتسرة في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية إلى أستاذنا السر قدور لتبدأ مسيرتي الثانية في صحبة الكلمة فداومت على الكتابة منذ أكتوبر 1997 وحتى يوليو 1999 إلى أن حدث معي ما جعلني أتوقف عن الكتابة. في مساء يوم الخميس الموافق للثلاثين من سبتمبر من عام 1999 وصلت القاهرة بكامل صحتي و موفور عافيتي-علماً بأنني لم أشكو أو أعاني من أي مرضٍ أو عارضٍ صحي طوال حياتي. و غادرتها إلى أبو ظبي صباح الأحد على كرسي متحرك بعد أن هبط عليّ فجأة و بدون سابق إنذار مرض نادر يطلق عليه متلازمة "جليان باري" على اسم مكتشفيه الفرنسيين....هذا المرض يسببه فيروس يتسلل إلى الجسم عن طريق نزلة برد أو بعد عملية جراحية و ثبتت إصابات لبعض النساء بعد عملية الولادة إلى جانب أسباب أخرى لا تزال مجهولة كما في حالتي. هذا الفيروس يصيب أعصاب الجسم بالتلف و يؤثر بالتالي على العضلات فيضعفها ثم يشلها. ينقسم هذا المرض إلى نوعين النوع البسيط الذي يصيب الجزء الأسفل من الجسم أما النوع القاتل و الذي شاء لي قدري أن أقع بين براثنه فهو الذي يصيب كل عضلات الجسم...الساقين ....الذراعين...الحلق...الحنجرة....اللسان ..البطن ... والصدر و الذي يعتبر مكمن الخطورة لان عضلات الصدر في تمددها وانقباضها تساعد الرئتين على أداء و ظيفتهما فإذا أصابها الشلل انحبست الرئتان بالداخل و مات المريض ما لم يوضع في جهاز التنفس الاصطناعي. فى غرفة العناية المركزة أُدخلت جهاز التنفس الاصطناعي الذي مكثت فيه قرابة الشهرين في غيبوبة كاملة بفعل المخدر كنت أثناءها أخضع لعلاج طبيعي مكثف إلى جانب عقار "الإيميونوقلوبيولين" Immunoglobulin الذي يعمل على تقوية جهاز المناعة ويتم حقنه عن طريق الوريد. بعد ذلك واصلت العلاج الطبيعي في مستشفى "سبولدنق" Spaulding لإعادة التأهيل بالولايات المتحدةالأمريكية، والحمد لله الذي حباني برحمة من لدنه فأنعم علي بالشفاء التام، ولم يتبق لي من تلك التجربة سوى أطيافٍ من ذكرى باهتة. نشرت تفاصيل تجربتي المرضية هذه في كتاب بعنوان "في نفق مظلم بين الحياة و الموت" كما نشرته أيضاً في بعض المواقع الإلكترونية و الطبية تحت عنوان "قصتي مع مرض نادر و قاتل". وهكذا توقفت عن الكتابة للمرة "الثانية" ! الضحية "الثالثة" "لكراعي" الحارة كانت جريدة "أجراس الحرية" التي استقبلني القائمون عليها بكل أريحية و كرم و أصبحت مقالاتي تحتل حيزاً مريحاً في صفحاتها و فجأة وبلا سابق إنذار أصدر مجلس الصحافة و المطبوعات قراراً بإيقاف الصحيفة الأمر الذي يؤكد أن حديث الإعلام الرسمي عن حرية الصحافة يكذبه واقع الحال. و الآن جاء "الهكر" ليجعل من موقع سودانيز أون لاين آخر ضحايا "كراعي" الحارة، أو ربما أتى هذا "الهكر" ليجعلني أتأمل فيما يقال عن "السبر" أو العارض، هذا القول الذي يرتكز عليه البعض كلما تعددت أمامهم العراقيل والعقبات في تحقيق غاية ما. وأظنني لو كنت من هؤلاء "البعض" لكنت قد ترددت كثيراً قبل أن تطأ قدماي أرض هذا الموقع ثانيةً و ذلك حرصاً مني على "استمراريته" و حماية له من "هكر" قد يعاود لعبته. • تخريمة: عند التحاقي بجامعة القاهرة فرع الخرطوم أنشأت جريدة حائطية اخترت لها اسم "الكلمة" .وبعد فترة وجيزة أصبحت "الكلمة" بفضل عون الزملاء و الزميلات منبراً لشتى الآراء الأدبية و الثقافية و الاجتماعية و السياسية و لكن قبل أن تكمل "الكلمة" عامها الثاني كنت قد تزوجت و سافرت إلى المملكة المتحدة. و لما رجعت بعد سنوات أربع كان القوم قد انفض سامرهم "قدامى الزملاء" و لم يكن في مقدوري تحريرها وحدي وسط مشاغلي و ظروفي الأسرية و لعلي هنا أستطيع أن أقول أن تلك كانت المرة الوحيدة التي توقفت فيها عن الكتابة بمحض اختياري و بكامل إرادتي الحرة. تهنئتي الحارة لرواد الموقع من قراء و كُتّاب .و تحية خاصة منى لصاحب الموقع .. ودمتم بخير.