عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يرفض السقوط.. والنصر يخدش كبرياء البطل    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الجيش ينفذ عمليات إنزال جوي للإمدادات العسكرية بالفاشر    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    عصار تكرم عصام الدحيش بمهرجان كبير عصر الغد    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السر قدور باع لنا الترام في (أغاني وأغاني)
نشر في سودانيزاونلاين يوم 17 - 08 - 2011

لم يحظ مشروع إعلامي بصيت مثلما هو حال برنامج "أغاني وأغاني" الذي أقام دنيا الناس، ولم يقعدها بعد. ليس الغناء فقط هو العامل الأساس الذي شغل إهتمامات المشاهدين، وكثير مستمعين حرموا من نعمة البصر. وكذلك لم يكن الشوف وحده هو الذي أثار، وما يزال، يثير غريزة التواصل العميق مع تخريجات البرنامج الترفيهية..برغم أنه لا يضيف بعض شئ يذكر إلى مسيرة النهر الغنائي الخالد.
الحقيقة أن اسبابا عدة، ومركبة، أسهمت في أن يخطف السر قدور نجومية البرنامج، ويعمق بالمقابل وجود نجوميات غنائية في شهر تهجع فيه الآنام لمسح آثامها بالسجود الكثيف، ووساوسها بهدهدة مضغة القلب.
أولا، لا تكتمل معرفة سر هذا الإهتمام بالبرنامج الشهير الذي لم يضف فنيا، ولكن إنتشرت سمعته إعلاميا، إلا بمعرفة سيرة السر أحمد قدور كإعلامي مخضرم، ومغامر، وسوداني متسامح بنهج الأجواء التي سبقت عصر تسريب الآيديولوجيات التي نحرت سودانوية أمدرمان الباذخة، وباعدت بينها وأزمانها، وأمكنتها، البدوية والعصرية معا.
إن تاريخ الأستاذ قدور حافل بالأشراقات، والإنكسارات العاطفية والوطنية، ما في ذلك شك. فقدور من ذلك الجيل الذي تفتح وقد وجد أمامه مجتمعا يتشكل جينيا، وإجتماعيا، ويعرب عن أمله في الإستقلال بقيمه الدينية ذات القسمات الصوفية. وكذلك كان يأمل جيل قدور الخارج من (مطمورة التاريخ) في صياغة مشروع سياسي لبقعة كثيفة التنوع، وغنية بتاريخها غير المكتوب، ومع ذلك حظها من النهضة سيئ.
نشأ قدور في حواري أمدرمان الثلاثينات، والأربعينات، والخمسينات، حيث كانت اقوام المدينة المصنوعة كما أفتى البروفيسور عبدالله حمدنا الله تستوعب بالتسامح في أحيائها، ونفاجاتها، الشوام، والأغاريق، والهنود، وابناء المسالمة المعمدين، وبقية الأولاد (الحمرتجية) الذين نالوا تشكيك الإمام المهدي.
(أمدر أمان)، أو (أبدرامان)، كما رأى المؤرخ يوسف فضل، في إجتهاداته البحثية لسبر غور المدينة، كانت تجهد نفسها في تأسيس، وصهر، ولجم عصبية منظوماتها الأقوامية التي تحكم الوطن الجريح. والحال هكذا تمسك نخبة امدرمان برسن القيادة ثم تتقهقر لاحقا، وتصبح الجماعة الفاعلة وسطها غرباء، ومهمشين، أمام المد الأصولي الذي سلم القياد إلى الذين يجاهدون ضد إرث السودانوية بحسن نية، أو بسوء قصد.
كانت الأجواء السياسية، والثقافية، والفنية، والإجتماعية، لأمدرمان الحركة الوطنية تفور، وتمور، من أجل التعبير عن خلجاتها، وسرائرها، وتزمراتها، وزمجراتها، المشمولة بالبحث عن جزر الذات، وفي الوقت نفسه شرعنته قوميا. وكان حلم النقلة من مخاضات صناعة الهجين، والتهمة بالصياعة، إلى صياغة الوجدان السوداني، هدف أنتلجنسيا المدينة التي تلهجت يوما بعربي التعايشة في اللحظات التي سبقت سقوطها، كما دلنا رائد تعليم البنات بابكر بدري حين أعطانا صورة بانورامية لديموغرافية، وأنثروبولوجية، وأوتوغرافية، مدينة الترام، والتراب، والتي حكى علي المك قصتها، وثرثر بالحرف الندي عن قمرها الجالس في فناء الدار.
كان حلم التحديث، وآمال المد الوطني في العاصمة، والمديريات الست، يغلي بنار أحزاب الوطن، ونقاباته، وعشائره، وبيوتاته. وهناك يقف شباب مؤتمر الخريجين، قبل ضرب أسفين أحلامهم، مخططين وناقدين لخطوات السيدين، ويدعمهم الموسيقي الشاب إسماعيل عبد المعين كفاحا بأغنيات منها (صه يا كنار). صوتا الإذاعيين خاطر أبو بكر، وصلاح أحمد محمد صالح، كانا ينقلان أخبارا سارة، وأخرى مؤسفة، عن تخاذلات ثقافية، وهيمنات طائفية على تمثيل، وإخراج، وأداء، الموقف الوطني.
على المستوى الرياضي كان السر قدور قد أحب النقد الرياضي، ومريخيته لم تكن لتخفى، هي مثل مريخية الأديب طه محمد طه، وأحمد محمد الحسن شيخ الإعلاميين الرياضيين، وأدهم علي الذي كان يتغزل في الأحمر عبر (الأدهميات). غطى قدور مع هؤلاء الإعلاميين مباريات الهونفيد المجري، والردستار. وخبر ايضا كسرات حسن عطية اللاعب الصاروخ، ومراوغات صديق منزول، وبرعي القانون، وعبد الخير صالح، وعمر موسكو، ودريسة، وحسبو الكبير، والجاك عجب: أول كابتن للفريق القومي السوداني.
وجد المسرحي السر أحمد قدور في غدواته ورواحه الأمدرمانية أبن الأبيض إسماعيل خورشيد يتسكع في حواري أمدرمان ثم يتلصص في سماع كبار(أدباتية سوق الموية). وجده وقد إستولى، بواسطة الشعر العاطفي النبيل، على صوت صلاح محمد عيسى الآسر، بينما تومات كوستي كن يتفنن في تنويع نغم التم تم. مع خورشيد سار قدور في درب العصامية. كانا يتعرضان للطرد بسبب صغر سنهما من ندوة عبدالله حامد الأمين الأدبية، كما أسر الشاعر عبدالله النجيب للكاتب، وكان ثالثهم الذي قتلته عيون أمدرمان حتى كني بها.
ومع ذلك لم يستيئس الشابان قدور وخورشيد من البحث عن المعرفة، ثم فجأة يتخطفهما مسرح حسن عبد المجيد الذي ألف لهما الإسكتشات، وأصبحا، من بعد، ممثلين باهرين، ولاحقا يكتبان المسرحيات ويتنافسان في الآن نفسه، على نسج الشعر الغنائي للعاقب، وسيد خليفة. وهناك في طرف ليل الخرطوم وجدتنا مع عبد الفتاح الله جابو، وخليل أحمد، وحسن بابكر، حيث كانت خرطومهم تنافس أمدرمان بأنديتها، وبمركز جنوبها، وبموسيقاها التي تخالف ما هو عليه الريع الموسيقي لعبد الرحمن الريح، والذي أكثره يذهب بخماسيته القحة إلى إبراهيم عوض، والتاج مصطفى، ولاحقا الجابري، ومحجوب عثمان.
في أربعيناتها أيضا، كان عبد الخالق أيضا يمتح من بئر الماركسية في شبابه الأمدرماني الأنيق، ليزود حراكه الذي أودى بشبابه، ففقدت البلاد وطنيا في ملابسات الصراع بين الآيدلوجيا والتوتاليتارية، مثلما كان هناك شيخ صادق عبدالله عبد الماجد يتحفز لزرع فكرة الاخوان وسط طلاب المعهد العلمي. ومع ذلك لم يقع قدور في شراك الشيوعية ولم تصطده تجنيدات الأخوان. ولاحقا تستبين جذوره الحزبية.
بجوار ميدان البوستة تشهد قهوة جورج مشرقي، وقهوة يوسف الفكي توليفا ما بين الشعر الغنائي، وألحان علاء الدين حمزة، وصوت الفلاتية الذي شذبه الملحن العظيم أحمد زاهر، وتفانين برعي محمد دفع الله مع عبيد الطيب. وكانت الخرطوم، آنئذ، ما تزال تستلهم من مسرح الجاليات، وصحف ما قبل الإستقلال التي اسسها السيد عبد الرحمن: حضارة السودان، والنيل. وكانت هناك الرأي العام لإسماعيل العتباني، والسودان الجديد لأبي الصحف: محمد يوسف هاشم. أما ديمتري البازار الذي إقترن بالمغنية حوا خميس فكان يحاول ربط أمدرمان بالحداثة في عصر الفونوغراف. يتأبط الإغريقي البازار في رحلته الميمونة بالقطار كمنجة السر، ويغادران إلى قاهرة الأربعينات، والخمسينات، بمعية الحاج سرور ثم يعود الرهط بجراب الحداثة الموسيقية. والحال هكذا تنوع مداد قدور، وسال سياسيا في صحف حزب الأمة، والذي بقي إلى وقت قريب وفيا له، ولذلك ليس من المستغرب أن يدافع عنه الأمام بتصريح مدسوس في الصحف نكاية في محاولة الأئمة ضرب حركة إبن الأنصار الذي لا يحفظ شيئا من الراتب ولذلك تتشع ضحكاته الجلاجل في عدسات المخرج مجدي عوض صديق.
المهم في كل هذه القبسات الزمانية والمكانية، هو أن حصيلة البيئات المعرفية الأمدرمانية كانت خصبة، وموحية، أمام الفتى الكشكول الذي أراد أن يكون له في كل هذه المجالات إسهاما، وشأنا، وإسما، وقد رمى، وما رمى السر قدور. فقد ألهمه الله من تجربة التساكن الأمدرمانية، وتثاقفاته مع ابناء الخرطوم، وثقف قلما شعريا ليستطيع الإحاطة الكلية بكل هذا العواطف، والأحلام، التي كانت تثقل كاهل الإذاعة، والتي في حوشها تدرب ردحا، ثم صادق، ثم خاصم، فتكتل. ومع ذلك أرسل رسالته عبر الاثير، سواء من خلال صوت الكاشف، أو العاقب، وفيما بعد أعطى أب نعوف (حنيني إليك). يا لهذا المجد الذي زان السودانوي السر أحمد قدور.
ولما لم تعد الأخبار التي يتلقاها قدور في مهجره القاهري تأتي بمساؤي الطيب مصطفى الذي أوقف الأغاني المسجلة من البث، وأوصد الباب أمام كمنجة عبدالله عربي، وجيتار محمد جبريل، ودربكة عبيد، وصفارة اسامة بيكلو، فكر شاعرنا في ركوب الصعاب. ولما بدت الإذاعة وإن تم التخلص من فرقتها التي كان يمكن أن تتطور إلى جوقة ماسية في التمهيد للتحول الديموقراطي أسر قدور لأصدقائه أنه من داخل الحوش الذي فيه ترعرع في شبابه يستطيع أن يبذل الإجتهادات الفنية، ويأتي بما لم يستطعه الأوائل.
عاد شاعر (يا ريت) من رحلته الطويلة إلى القاهرة، ووجد أن المناخ قد تقبل بعض البرامج الإعلامية، وليس كلها. فالتمكين الإسلاموي قد شبع متمددا، ولكن نيفاشا قصقصت بعض أجنحته الضاربة، ولا يهم كثيرا، أو قليلا، بضع جماليات في الصورة، والصوت، ما دام أن ذلك لا يصيب ديناصور التمكين في مقتل. وما دام أن المشروع البرامجي لقدور، وإن كان يتيح للمبدعين، والشعب، الترويح بدلا عن مطاردة زوايا التراويح، لا يقضم تفاحة الكسب الأخواني فهو الأحق برضا أهل البرمجة الإعلامية العليا به.
عرف قدور بخبرته الأمدرمانية، والإعلامية، إمكانية الدخول عبر بوابة الفن، وليس عبر بوابة العشائرية السياسية التي وظفت كثير من المبدعين المعارضين، ومالنا نذهب بعيدا فأخيه الدكتور الذي لا تتذكر له الأمة قصيدة واحدة قد صار رئيسا ومتحدثا بإسم الأدباء السودانيين في المحافل المحلية، والعربية.
بالموجهات (الطايرة) فهمت القنوات الفضائية من الجهة الأخرى المقصود من لعبة التحول الديموقراطي، فلعبت دورا تراه أصيلا في نشر ثقافة الديموقراطية الفنية عبر الإهتمام بالغناء، لا الدراما التي لا تنجب رأسمال (مريسة تام زين) حتى. فقناة النيل الازرق، خلافا لقناة الدولة الرسمية، والتي يقف على رأسها الاستاذ حسن فضل المولى حاولت إستقطاب المبدعين، ومن بينهم هاشم صديق، وابو عركي البخيت، وهما قد دخلا فخرجا دون أن يتنازلا عن مواقفهما. أما استاذنا عبدالله علي إبراهيم فصار زبونا دائما للصحف والفضائيات.. يحدثها عن الإرث النضالي للشيوعية في البلاد، ويؤيده في ذلك المذيعون الإسلاميون ويضحكون عليه بالقول إن الشيوعية هي إرث الأمة في زمن هجمة الهامش، ذلك مهما تباعدت المسافات وغاص قطارها في الفناء، ومهما تهدمت قلعة النضال العطبراوية.
إذن لا بد من رمية، ولماذا لا يرمي قدور المنتمي لأحزاب القبلة رميته إذا كان الزراليخ من اليساريين يرمون فيصطادون (الظروف) المليئة بعطايا القناة الفضائية. وهكذا بدأ الإعلامي المخضرم في تمتين شباكه حتى إن رمى أتى الصيد ثمينا، وأصبحت الشباك في كل عام تدر المليارات الرمضانية لرأس المال الإسلاموي الشبق. ولا بأس من أن يعطي المشروع فرصة الطل للمغنواتية الوسيمين والمغنيات الجميلات.
وما أن أكمل الجنوب إنفصاله بالإستقلال وأصبحت البلد مهيأة لدستوري إسلامي كامل الدسم هاج، وماج، أولئك الذين لم يفهموا الأرضيات الأمدرمانية التي سوقت قدور، وساقته إلى أن يكون على مرمى حجر من مدافع السلفيين الرمضانية، والذين إحتلوا أمدرمان جورج مشرقي، وريفوا، بالخيام السلعية، سوق الصاغة، وميدان البوستة، والمدرسة الأهلية.
وهكذا فجأة تحول البرامجي الذي نفس عن كرب المشروع الحضاري، وإحتل لحظات ما بعد الإفطار لأعوام ستة، إلى موضوع خطب الجمعة، حيث يوصف تارة بالعجوز المتفسخ الذي يستجمع البنات والأولاد لممارسة الغناء وتبادل النظرات في حانة فضائية للغناء الذي لم يبحه الأئمة من السلف الصالح بهذه الصورة المسبوقة، كما قيل..وفي رمضان التهجد، والخشوع، والهدهدة الروحية.
هكذا قال الائمة عن ابن الأنصار، ولذلك فهمنا تصريح الإمام الأكسفوردي العاجل لرد غائلة التهجم المذهبي من أهل القبلة، هذا برغم أن الإمام صاغ دفاعه بعناية فائقة حتى لا يغضب الذين يضمرون نحو (وسطيته) أشكالا من الإستخفاف.
لا أخاف على صديقي العزيز عصام محمد نور وبقية الأصوات، وخصوصا طه وشريف، من شئ إلا إهدار اصواتهم في التكسب بأغاني المبدعين الراحلين والمقيمين، والذين كانوا في عشريناتهم قد ملأوا البلاد بالإبداع، ونافسوا الرواد، وأضافوا لمسيرة الغناء دررا خالدة. ولكنه، على كل حال، زمن متخلف ومختلف، حيث يداهم المرض الفنانين الكبار محمد ميرغني، وعبد العزيز المبارك، وإبراهيم حسين، بينما يسهم قدور في كل عام في إجترار تجاربهم الخاصة، في حين كان بإمكانه، وهو الإعلامي المخضرم أن يوجه هؤلاء الذين تجاوز بعضهم مرحلة الشباب، إلى البحث عن حروف، وأنغام، وموسيقى جديدة تضاف إلى إرث أغنية أمدرمان، والذي غطى إعلاميا على أغاني الربوع.
وما الذي كان يمنع الأستاذ قدور من أن يفرض على الشباب في كل عام تقديم أعمالهم الخاص مهما يكن تواضعها أمام أغنيات الرواد؟ ألا يدرك قدور أن الإشتراط على تقديم الجديد كان يمكن أن يحفز نادر خضر، وفرفور، وعصام البنا، وآخرين، للإجتهاد طوال العام، بحثا عن شعراء وملحنين يقدموا لهم أعمالا تليق باصواتهم الجميلة؟ أوليس من الأفضل لهؤلاء المغنيين أن يخلدوا أنفسهم إبداعيا عبر أعمالهم الخاصة، والتي من خلالها يتطورون ويحافظون على سريان نهر الغناء الخالد؟ ومن قال إنه ليس هناك كثير من مغنيين مجيدين وجادين يستطيعون أن يقدموا جديدا إن كان هناك تنافس حقيقي بين الأصوات المتوافرة، والمتنافرة، في ساحة الغناء؟ ولماذا لا تتاح الفرصة لشباب آخرين ما دام أن هؤلاء المغنيين الراتبين قد أخذوا فرصا للظهور خلال الأعوام الستة التي خلت؟.
على كل نجح قدور وطاقمه الفني في أن يشغل المشاهدين بقصة غير قصيرة عن فشل المشروع الحضاري في تطوير المعطيات الفنية للبلد، ونجح أيضا في أن يرينا شبق الرساميل الإسلاموية في إمكانية الإستثمار في التاريخ الغنائي الذي حورب بهوادة، ونجح كذلك في أن يحول إهتمامات الناقدين من إظهار ملامح الجدة الإبداعية إلى الإهتمام بتفاصيل عن أداء واصوات موظفة، من حيث تدري أو لا تدري، لرسم سياسة حكومية عامة تهدف إلى إلهاء المبدعين عن تطوير الموروث الغنائي السوداني، وتحجيم أحلامهم في حدود إجترار الماضي دون السعي لتحقيق أصالة الجيل الفنية، وتفجير طاقاته، في التعبير عن واقع مجتمعهم. ولعل الذين يستضيفهم البرنامح حققوا شهرتهم اللحظية، إذن، فما الذي يحملهم لإختيار الطريق الصعب لتخليد إبداعاتهم. ورحم الله مصطفى سيد أحمد، والعميري، وعبد المنعم الخالدي، وخوجلي عثمان، وهم آخر الراحلين الذين فضلوا أن يعرفوا بهمهم الكبير في الغوص مليا في نهر الإبداع الخالد لجلب لآلي الإيقاع، وصدف النغم، والتحية لأحمد شاويش، وعلي السقيد، وسمية حسن، وآخرين لم تأت تجارب غنائية جديدة تتجاوز جمال ألحانهم، وخصوصيتها، وحلاوتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.