عندما تأخذك اللحظة من الخرطوم قادما إلى أمدرمان مارا بسوق السمك في اتجاه بوابة عبد القيوم تقابلك حدائق جديدة أطلق عليها أبناء أمدر "حبيبي مفلس". في هذا المكان الذي يرقد على ضفة النيل كالهمزة على سطرها مقابلا حديقة الموردة وطرفا من نادي الفنانين تجد العازفين قد جلسوا حول ست الشاي يتجابدون أطراف الكلام ملقون نظراتهم الثاقبة على الطريق وعلى كلّ من مرّ وكرّ. وفي كثير من الأحيان يتوسطهم بعض المطربين كالفنان كمال ترباس. يتعجب المارة لهذا المنظر الظريف ويتساءلون في نفس اللحظة: أهل ضاق بهم النادي أم ضاقوا به زرعا؟ أهل يتفادون اشتداد الوطيس اليومي بالنادي في بعض الأحيان؟ أهل السبب عدادات مدفوعة أو غير مدفوعة أم هو فرض القوانين على مسار الموسيقى السودانية عبر مساطر صلدة تفتقد للمرونة والرأي السديد؟ أم أن سبب الفرار من بطن النادي الجديد لحد ما مجهول؟ لقد قرأت المقال الذي تحدث عن تهكم المطرب ترباس على حملة الشهادات من العازفين وهم معروفون، منهم على سبيل المثال د. محمد سيف ود. الفاتح حسين وآخرون. لقد فجر ترباس قنبلة عارمة ولفت الأنظار إلى مشكلة هامة للغاية ألا وهي تدني أو ركوض هذا الفن الذي صار لعبة في أيادي الكثيرين من أهل الفن والمسؤولين وغيرهم ممن يحسبون أن الله قد ألهمهم الحلول السديدة لرفع التدني الحاصل فيه. إن الركوض الآني والذي دام حقبا كبيرة رغم عمل معهد الموسيقى ورغم ما خرج المعهد من طلاب ينوء بحملهم شارع الطرب العام وتعجز في استيعابهم سلالم التوظيف في المؤسسات العامة مع العلم بأن المدارس تفتقد عن بكرة أبيها لمعلمي الموسيقى وهذا أمر يجب للمسؤولين بالتعليم الوقوف عليه وقفة مستفيضة. يسير أولئك الخريجين في هذا الطريق الذي حمل وما فتأ حتى بلغت بهم أسباب الفقر والفاقة ما بلغت إلى درجة الطوفان. لكن من يتحمل المسؤولية هنا؟ ففي السودان نجد حملة شهادات في مجالات الموسيقى المختلفة ومن جامعات مختلفة ونحن نعتز بهم جل الاعتزاز لكن للأسف لم نر من الغالبية بصمات واضحة قد دفعت عجلة الفن والابداع في هذا المجال إلى الآن. لم نحس أن الشهادات قد صقلت الموهبة لتؤتي ثمارا وأعمالا يشار إليها بالبنان في السودان وفي المحافل العامة. لكن العيب ليس عليهم لأن وزارة الثقافة لم توفر لهم الآليات الهامة والتمويل اللازم للتفرغ بصورة مستفيضة لهذا العمل. إن الأغلبية منهم تجري وراء أرزاقها؛ فهم يحملون على أكتافهم أسرا ولهم التزامات كثيرة تجاه الفن وتجاه ذويهم. إذا نظرنا إلى بلد تعنى بتطوير الفن عبر التصدي للمشاكل من الجذور، هذا البلد هو فنزويلا. فنحن نجد أن الموسيقى أصبحت جزءا لا يتجزأ من يوميات الأسر وصاروا أقوى الدول في هذا المجال وباتوا ينازعون الغربيين في العزف على سمفونياتهم عبر تراثهم وطريقتهم اللاتينية في التعامل مع المادة الموسيقية دون التقليد. فأن غالبية الطلاب الفنزويليين قد صارت لهم شهرة عالمية وهم كانوا من الشماسة، وأحدهم يعمل مايستروا للفرقة السمفونية بنيويورك. وفي هذا المجال لعبت الدولة دورا بارزا في توفير المال والمواد والآليات للنهضة بهذا الفن وجعله في متناول كل الناس الفقير والغني. حتي على مستوى أفريقيا فنحن لم نبلغ ما بلغته مالي والنيجر والكنغو ولم نصل لقلب ثقافات تجهل تراثنا. إذا ماذا تفيد الشهادات وماذا نجني من النظريات الموزارية أو البتهوفنية إن لم نعمل في تطوير موسيقانا السودانية وتراثنا الثقافي انطلاقا من الأساس؟ المطرب كمال ترباس له الحق في الضجر والغضب عندما يرى كفاءات مثل أولئك الأخوة وغيرهم تقتل الوقت بنادي الفانين بين الكشتينة والمشاكسات الغير مفيدة. كيف نصل إلى ما وصلت إليه دول أخرى من الرقي الموسيقي الأصلي مع الحفاظ على قواعد السودانية الراسخة منذ القدم؟ يجب على المسؤولين بوزارة الثقافة التقليل من المهرجانات الصاخبة وأماسي لا تخدم القضية ولا تعالج المشاكل. يجب على الوزارة بداية العمل الثقافي التي انتخبت من أجله للأطفال وتربية النشأ وادخال مادة الموسيقى بالمدارس ودعم مراكز الشباب بالمال والعمالة الأكاديمية. بدون أدنى شك إن العلم له دور فعال في تطوير الفن والموسيقى بالسودان ونحن ننشد أن يقدم هؤلاء الفنانون الجدد ممن حملوا الدرجات العلى في علم الموسيقى والهرموني لمساتهم البينة ودأبهم الجاد في تطوير الموسيقى بالسودان وأن تصل الرسالة عبر العمل الشبابي أو عبر الأداء أو الألحان أو الهرمنة أو التوزيع الموسيقي إلى المواطن وحسب مستوى استيعابه لها. يجب أن يتخذ هؤلاء الأقدمين مثالا نيرا للمضي قدما على نهجه ولنلتمس ما قدمه الرعيل الأول (مثال الكاشف وكرومة الخ) والرعيل الثاني (مثال أحمد المصطفى وحسن عطية الخ) والرعيل الثالث (زيدان ابراهيم وعبدالعزيز المبارك ومصطفى سيد أحمد)؟ إن صح لنا تقسيمهم في المجموعات أعلاه. ففي برامج التلفزيون شاهدت قبل الأمس برنامج "مطرب وزمرة" وكان ضيف البرنامج الفنان الأصيل عوض الكريم عبدالله وكان معه فرقة موسيقية كمنجات "لا ليها أول ولا آخر" والبقية المعهودة من العازفين المتكدسين. لكن الكل يعرف نفس النغمة والكل لا يخدم الأغنية بل يخدم نفسه ويطربها ويطلع صولات ليبرز عضلاته. لعمري نفس الموسيقى التي سمعناها ونحن في سن الصغر ما زلنا نسمعها بنفس القالب القديم دون أن يلجأ العازفون للتفكير في بلوغ الأبداع السوداني والتدبر في تطوير اللحن ومضامينه والرقي به إلى درجة السودانية العالمية الأصيلة. مع احترامي للفان محمدية وكبار العازفين فكان ينبغي عليهم تقديم الجديد والخروج من اللحن والأغنية من قالبها المكرور إلى آفاق جديدة من واقع الإحساس السوداني. والفنان ترباس له أياد سابغة على الموسيقى السودانية وتراثها الشعبي، إذا فله الحق في أن يشعل هذه النار بدار الفنانين القابعين على ضفاف النيل وحدائق حبيبي مفلس!