حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    تحولات الحرب في السودان وفضيحة أمريكا    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد مستشفى الجكيكة بالمتمة    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    شاهد بالصور.. بأزياء مثيرة للجدل الحسناء السودانية تسابيح دياب تستعرض جمالها خلال جلسة تصوير بدبي    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تشعل مواقع التواصل برقصات مثيرة ولقطات رومانسية مع زوجها البريطاني    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب مصري يقتحم حفل غناء شعبي سوداني بالقاهرة ويتفاعل في الرقص ومطرب الحفل يغني له أشهر الأغنيات المصرية: (المال الحلال أهو والنهار دا فرحي يا جدعان)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    للحكومي والخاص وراتب 6 آلاف.. شروط استقدام عائلات المقيمين للإقامة في قطر    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ترجّل الفارس النبيل البروف محمد مهدى أحمد .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش
نشر في سودانيل يوم 22 - 07 - 2017

الحياة الدنيا عندي ما هي بزينة لولا نعم الله الكثيرة التي أسبغها على الإنسان والحيوان والطير والجماد، ومنها نِعم وخاصيات لا ندرك مدى ضرورتها إلا عندما نُحرم منها وهكذا الإنسان دائماً إذا مسه الشر جزوعا.. ومن تلك النعم، التي أحمد الله عليها، فبمجرد أن أصل وأضع رأسي على وسادتى، في أي وقت، أنام ملء جفوني عن شواردها وتغمض عيناي في سرعة بل في أقل من غمضة عين وإنتباهتها كما يقولون. ليلة أمس كانت واحدة من الليالي النادرة في العمر.. صحيت فيها في منتصف الليل ولم أذق طعماً للنوم حتى صباح اليوم الثاني.. قمت مذعوراً وأتصبب عرقاً من شعر رأسي حتى أخمص قدمي، رغم برودة الجو في الغرفة، والحمى اللعينة تهرس جسمي كله وما عرفت لكل ذلك سبباً ! وماذا ألم بي بغتة وأنا أغط في نوم عميق! تحيرت في الأمر وجلست على مقعد قريب في سكون تلك الليلة حتى ينجلي ذلك الليل الطويل بصبح جديد، واستعنت بالهاتف الجوال ليشغلني عن هواجس تلك الليلة ويقرّب لي الصباح.. ويا ليتني ما استعنت..! فمن أولها جاءني النعي من صديق حزين سطرها في كلمات قليلة لكنها كانت كالعلقم بل أشد مرارة.. "أخي شوقي.. البروف محمد مهدى في ذمة الله في الرابعة صباحاً". خبر وقع علىّ كالصاعقة وكادت الدماء أن تتجمد في عروقي وتسارعت نبضات قلبي وزادت حالة عدم التوازن التي كنت أشعر بها منذ منتصف تلك الليلة فعزيت أن حالة العرق والحمى التي فاجأتني دون سبب ماهي إلا ارتباط بحالة أخي وصديقي وزميلي البروف محمد مهدى عندما كانت روحه تنازع فراق جسده في ذات الوقت من تلك الليلة.. أو هكذا أفسر.
ليس القصد هنا أن أكتب رثاءاً عن البروف محمد مهدى فليس هناك في قواميس اللغة كلمات تستطيع أن تعدد مآثر الرجل وتبرز صفاته أو حتى تعبرعن حزننا لفقده، ولن أكون أبداً مثل الخنساء التي رثت أخاها صخراً بأبلغ أبيات الشعر.. ثم ما فائدة الرثاء وأنا أدرى أن الحروف سوف تقصر في حق البروف..ليس ذلك فحسب ففى اعتقادي أن شخصاً مثل البروف لا ُيرثى فقد ترك فينا وبيننا من الدرر والأثر ما سوف يجعله ماثلاً بيننا في كل الأوقات. فقط أردت أن أجمع بعض المعلومات المتناثرة عنه هنا وهناك لفائدة الذين لا يعرفون هذا المعلم القامة وأيضاً لفائدة الذين يعرفون عنه القليل فقد كان من خصاله المتأصلة أن لا يتحدث عن الذات ولا يفصح عن حياته الشخصية ولا حياته العامة ولذلك لا يعرف الكثيرون جوانب هامة من حياته وشخصيته التي حاولت أن أبرزها وأحفظها للأجيال القادمة لتتخذ منه نبراساً في الحياة.
الأستاذ محمد مهدى أحمد على شخصية معروفة في الوسط التعليمي أساتذة وإداريين وطلاباً وخريجين وخريجات من جامعة الخرطوم عموماً وكلية التربية على وجه الخصوص والتي عمل فيها أستاذا مميزاً في مادة اللغة العربية التي تخصص فيها وحاز فيها على درجة الدكتوراه من جامعة دبلن عام 1985 ثم حاز على مقعد الأستاذية من بعد ولذلك ترك أثراً ملموساً في قطاع كبير من الناس أغلبهم من المتعلمينً الذين كانوا يكنون له كل الاحترام والتقدير والود حيث كرمته جامعة الخرطوم لتمّيزه في عدة مناسبات.
ولد البروف محمد في قرية دبيرة شمال شمال مدينة وادي حلفا في العام 1943واتم الدراسة الأولية بمدرسة دبيرة الأولية والمرحلة المتوسطة بحلفا الأهلية والمرحلة الثانوية بمدرسة وادي سيدنا ثم عمل معلما لفترة بالمدارس المتوسطة بمدينة حلفا الجديدة عام 1967 حتى التحق بجامعة الخرطوم وتخرج بتقدير ممتاز من كلية الآداب عام 1972 ومنح بعثه دراسية بجامعة "سانت أندرو" باسكتلندا وانتهى من اجازة رسالة الماجستير ثم التحضير للدكتوراه بنفس الجامعة.. وكانت رسالته (دراسة نقديه في مؤلفات ابن جنى) – وابن جنى هذا هو أبوالفتح عثمان ابن جنى وكان عالم نحوي كبير ولد بالموصل وكان يتبع المذهب البصري في اللغة العربية وكانت عنده حظوة عند الشاعر المتنبي الذي كان يحترمه ويعرف قدره.. ويعد ابن جنى أول من قام بشرح ديوان أشعار المتنبى، وبلغ ابن جنى في علوم اللغة العربية من الجلالة ما لم يبلغه إلا القليل. وما كُتبه وأبحاثه التي يظهرعليها الاستقصاء والتعمق في التحليل واستنباط المبادئ والأصول من الجزئيات واشتهر ببلاغته وحسن تصريف الكلام والإبانة عن المعاني ووضع أصولاً في الاشتقاق ومناسبة الألفاظ للمعاني- وعلى رسالته هذه، مُنح البروف محمد درجة الدكتوراه وعاد ليعمل استاذا بكلية التربية جامعة الخرطوم وكان بجانب اللغة العربية مهتما باللغة النوبية وله ديوان سماه (دسي ليمونه) وهي تعنى بالعربية (شَبَهْ الليمونة الخضراء) كما سيأتي ذكره من بعد.. وله عدة دراسات أذكر منها دراسة بعنوان أثر اللغة النوبية في العامية السودانية. وشارك في برامج تلفزيونيه وكانت اخر مشاركاته قبل وفاته في تدشين كتاب (النوبيون العظماء) في الاسبوع الماضي وهي من تأليف الكاتبة الأمريكية "دورسيلا دونقى" بنادي ابناء كرمه بالخرطوم.
بالرغم من أن الأستاذ محمد مهدى ولد ونشأ في نفس قريتي إلا أننى لم ألتق به إلا في المرحلة المتوسطة في الدراسة، ثم التقيت به مرة ثانية في قطار إكسبريس وادي حلفا عام 1963 ونحن لأول مرة في طريقنا إلى الخرطوم للالتحاق بالمرحلة الثانوية في مدرسة وادي سيدنا بأم درمان وكنا مجموعة كبيرة من المنطقة في هذا القطار تم قبولهم في هذه المدرسة العريقة، وكانت هذه بداية المعرفة الحقيقية مع هذا الرجل الجذاب. توطدت علاقتنا عبر سنين الدراسة في وادي سيدنا حيث كان من يومها علماً من علماء الفكر والسياسة ورئيساً لحزب القوميين العرب (يضم الناصريين والبعثيين) الذي كان في أوجه ومنافساً لحزب الجهة الإسلامية والحزب الشيوعي آنذاك. تفرقت بنا سبل الحياة مبكراً حيث هاجر كلانا إلى دول الخليج في الثمانينات، هو عمل معلما بمدينة صلالة بسلطنة عمان لفترة وعاد من الاغتراب في التسعينات ليواصل مسيرة التدريس الجامعي في السودان. وبالرغم من بعد المسافات بيننا ظل الارتباط الوجداني قائماً وكنا نلتقي في فترات متباعدة في أرض الوطن، وقد التقيته آخر مرة قبل أكثر من عام في بيت عزاء قريب مشترك في حي الطائف في الخرطوم. رأيته بشكله المتميز بجلابيته الملونة وعليها السديري الأسود حافي الرأس مطلقاً شعر رأسه المخضب وبسمته التي لا تفارق محياه وضحكته التي تنفرج لها أسارير وجهه إلى أعلى حتى لا تكاد ترى عينيه وصوته الخافت كالهمس وهو يحكى لك قصة أو معلومة أو نكتة. إنه البروف محمد الإنسان الاجتماعي المرح العالم المتواضع ذو الأدب الجم والخلق الرفيع والذي ترك أثرا كبيراً لدى أصدقائه ومحبيه وطلابه. فقد كنت أعجب بطريقة ونسته الهادئة واندماجه ومرحه مع أصدقائه وزملائه أذكر منهم على وجه الخصوص الأستاذ محمد خليل صيام المعلم والأستاذ سعدالدين فرح والأستاذ نورالدين على خيري والأستاذ عبدالرحيم أمين.
هناك جوانب متعددة لهذا المعلم والقيادى الفذ لكن سوف أركز على الجانب الفكرى والسياسى والجانب الأدبى والثقافى ثم جانب إهتماماته بالتراث النوبى واللغة النوبية. في الجانب الفكرى والسياسى فهو الذي سعى في تجنيدي وتجنيد الكثيرين من أبناء منطقتنا وغيرها في مدرسة وادى سيدنا لحزب القوميين العرب الذي تنامى في تلك الفترة وكان هناك صراع قوى ومنافسة حادة بين أبناء المنطقة في الجبهة الإسلامية وأبناء المنطقة في حزب القوميين العرب خاصة في تجنيد الطلاب الجدد. كان البروف محمد يميل إلى جانب البعثيين العراقيين أكتر حيث كنت أراه يقرأ كتب المفكر البعثي "ميشيل عفلق" بصفة خاصة وغيرها من الكتب وربما كان هو البعثي الوحيد في منطقة حلفا في الستينيات وهو من الذين قام على أكتافهم تنظيم الاشتراكيين العرب وانضم إليه وبسببه عدد كبير ثم شكل قاعدة صلبة من البعثيين والقوميين العرب في جامعة الخرطوم وقدم دراسات فكرية للحزب أيام قيادة عضو القيادة القومية وأمين سر الحزب في السودان المرحوم الزعيم بدرالدين مدثر. إن الشخصية السياسية والاجتماعية والمعرفية والكاريزمية للبروف محمد أَسَرَتْ معظم أعضاء الحزب وصار كالأب الروحي لهم، وأصبحت القيادة ترى فيه تهديداً لبعض الأوضاع والأفكار والأشخاص حيث توالت الخلافات بين المركز والخرطوم وتحديداً في جامعة الخرطوم الشيء الذي تطور إلى تبديل القيادة بشخص آخر يدعى عبد السلام والذي كان نائباً له. حصل ذلك في مؤتمر للحزب بالخرطوم وفي ذلك المؤتمر فُصل عدد من القيادات المتوسطة أيضاً.. ربما يكون بعدها قل نشاطه السياسي بل اعتزل العمل السياسي المباشر أو تغيرت أفكاره السياسية عندما سافر مبتعثاً من جامعة الخرطوم إلى أسكتلندا لدراسة الدكتوراه بتوصية من العلامة الدكتور عبدالله الطيب حيث كان قد تفرغ كلياً للدراسة. الشاهد كان البروف محمد ناشطاً في هذا الجانب واستطاع أن يؤثر في كثير من الطلاب وكان له دور فعال في تعليم الطلبة في العراق لكن تخليه التام عن هذا الجانب بدون إفصاح يضع علامات استفهام كثيرة لم تجد لها جواباً في حياته.
هذا ما كان عن الجانب السياسي الذي أخذ وقتاً في بواكير حياته. أما عن الجانب والثقافي والأدبي فقد توطدت علاقتي معه في مرحلة وادي سيدنا وكنت أقابله يومياً رغم أنه كان في غير فصلى وغير داخليتي فقد كان يسكن في داخلية الداخل وكنت أسكن في داخلية جماع وتفصل بينهما قاعة الطعام وعدد من الداخليات وكانت اهتماماته بالرياضة التي كنت أعشقها قليلة وقل أن تجده في أي نشاط من أنشطة المدرسة الرياضية الكثيرة إلا أحياناً في نادى الزوارق ..كان مهتماً بالأدب والشعر منذ ذلك الوقت وله دواوين لم ترالنور بعد حيث كان عزوفاً في هذه الناحية وكان لا يحب الأضواء وكان أقرب إلى الزهدً في الحياة. كانت له نظرات عميقة في علم اللغة المقارن وفى نشأة اللغات وتطورها مابين اللغة العربية والنوبية والإنجليزية بل كانت له نظريات مبتكرة وهو من القلائل الذين أحاطوا علماً بالعروض والنحو العربى بل كان من أقطابها. كان أحد أفذاذ اللغة العربية وجهابذتها في العالم العربى وكان من أصحاب العمق والتجديد ساعده في ذلك مزاملته لكبار المستشرقيين المختصين في اللغة والحضارة العربية والإسلامية خلال فترة التحضير فى جامعة سانت أندرو بأسكتلندا.
كم جلسنا معه وتعلمنا منه الكثير فقد كان اديبا وشاعرا متبحرا في علمه وأدبه وشعره وكان لديه خيال فنان يجسم الإحساس ويظهره أمامك وينحت الصورة في أشعاره وقصائده فتجد نفسك أمام لوحة ساحرة تعبرعن نفسها.
ولا انسى تلك الليلة التي كنا نحتفل فيها بمرورعام على رحيل شهيد وادي سيدنا في ثورة أكتوبر الطالب احمد عثمان سعد.. أنظر كيف استحضر الشاعر محمد مهدى صورة زميله الشهيد احمد حين قال:
ما لي وللراح والحسناء والعود
ولت عهود سقاة الخمر والغيد
سكرت حتى سئمت الكأس من سكرى
من نشوة العيد لا من فرحة الجيد
واذ بأحمد في الظلماء يرمقني
واذ بأحمد طيف غير موجود
مضى تولى تناءى عن مرابعنا
فأعجب لطيف تولى غير مطرود
واحسرتاه فاني اليوم تقتلني
ذكرى الشهيد بتأريق وتسهيد
الى ان يقول:
فرق تسد كان قانونا لدولتهم
فحاربونا بتفريق وتشريد
ما كان أروعه من شاعر حين القى على مسامع الحشد في المدرسة هذه المرثية العصماء في شهيد الوطن.
وفي الستينات من القرن الماضي ألف قصائد عن فلسطين والقدس وحزب البعث العربي التي كان يرددها الطلاب في المدارس ويحفظونها عن ظهر قلب حيث ألف قصيدة عن فلسطين من 40 بيتاً أذكر منها هذا البيت :
هناك حيفا ويافا خلف الحدود أَقسْمَتْ بالله أن نر كيد اليهود
وعن جانب اهتماماته بالتراث النوبي واللغة النوبية فهذا جانب أيضاً أخذ من وقته الكثير. فقد بحث ونقب في التاريخ وساعده في ذلك رغبته وإجادته للغة النوبية بكل لهجاتها. وأذكر أنه كان قد قدم دراسة لجامعة لندن ساوث لجمع وحفظ التراث النوبي وقد تبنت هذه الفكرة الأستاذة الدكتورة كيرستى والتي كان من المزمع الالتقاء بها في سبتمبر القادم في لندن لكن لم يمهله الأجل ليكتمل المشروع كما كان يريد. وفي هذا الجانب له شعر كثير وأورد مثال عن ما قاله عن وادي حلفا أيام الهجرة:
فجرعة من مياه النيا غايتنا وكسرة القمح من أغلى أمانينا
وفي المعابد آثار مدونة من عهد كشتا وأخناتون وآمونا
ومن اروع ما قرأت ترجمته للأغنية النوبية المشهورة (دسي ليمونا) - شبه الليمونة الخضراء- إلى اللغة العربية. ففي هذه القصيدة أخذ الشاعر الفكرة والصور من النوبية وعبرعنها باللغة العربية.. وهنا ربما كان سبب الغموض في الصور والخيال في هذه القصيدة المترجمة رغم أنه كان يجيد اللغتين إجادة تامة إلا أنها كانت محاولة منه فى أن يخلق نوع من التجانس بين الثقافة العربية والثقافة النوبية وأخال أنه نجح في ذلك، أما القارئ الذي يعرف اللغة النوبية سيدرك المعاني وجمال هذه القصيدة والصور التي عكسها حيث تكون الصورة مكتملة عنده وإليكم بعض الأبيات من هذه القصيدة:
ألا يا دسا ليمونا
في زورق السحر المعطر
في هدوء الأمسيات
سمراء جالسة وشمس تحترق
ونعيق ضفدعة تحاكي
في الدجي معني الأرق
والشعر في سمراء
في لون الدجى
تلك الصحيفة مابها
ما شأنها
تلهو أناملها بها
سمراء لم أرها
ولن أرها
كفانا في الجوى
والشعر في سمراء في لون
الدجى
نوبية هي حلوة القسمات
في لون البجا
ماذا أرى
خصلات شعر قد
تدلت في المياه
أدركت من سحر العيون
من الجمال .. من الحجى
سر الإله
تلك الصحيفة ما بها
ما شأنها
تلهو بها
ألا يا أسمر اللونا
ألا يا دسي ليمونا
ألا تدرين أن النيل
نيل جدودنا أسمر
وهذا الثمر يا سمراء
حلو لونه أصفر
وهذا الزورق السحرى
فيه حلمنا أزهر
وتحت نخيلنا نمرح عنف
وصوت الناي والطنبور
والمزمار والدف
ألا يا أسمر اللونا
ألا يا دسه ليمونا
كان موسوعة في الأدب النوبي وكان يتقن الأحاجي والقصص التراثية القديمة وكان يسجلها للأطفال للمعرفة وحفظ التراث وما زالت تسجيلاته القديمة موجودة. وللصدف الغريبة المحزنة فقد فقدنا زميله الباحث والناشط في التراث النوبي واللغة النوبية الركن الدكتورعبد الحليم صبار، طيب الله ثراه، الذي توفي في لندن قبل شهرين. والآن برحيل البروف محمد مهدى فقدنا الركن الثاني في هذا البناء و هذه المسيرة.
وخير ما أختم به هذا السفر في دنيا البروف محمد مهدى أن أدعو له بالرحمة والمغفرة بقدر ما قدم ، ولزوجته وأبنائه وبناته وأهله وأصدقائه ومحبيه الصبر وتحمل لوعة الفراق والرضاء بقضاء الله وقدره وجميعاً نمتثل بآيات الذكر الحكيم:
وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157).
شوقى محى الدين أبوالريش
11 يوليو 2017
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.